(الصفحة 231)
فمع عدم إمكان التمسّك لا يبقى مجال لإيجابه والحكم بلزومه .
وأمّا لو لم يكن الحديث بصدد الإلزام وجعل الحكم الإنشائي التكليفي ، ولم تكن الجملة الخبريّة مسوقة لإفادة التكليف والإيجاب ، بل كانت في مقام مجرّد الإخبار والحكاية عن الواقع ، وأ نّ الأثر المترتّب على التمسّك بالثقلين هو رفع خوف الضلالة وارتفاع خطر الجهالة ، وعدم الابتلاء بها إلى يوم القيامة ، فدلالته حينئذ على إمكان التمسّك به لأجل الانفهام العرفي ، والانسباق العقلائي ; فإنّ المتفاهم من مثل هذا التعبير في المحاورات العرفيّة ثبوت الإمكان في الشرط في القضيّة الشرطيّة الخبريّة .
مثال ذلك : أ نّك إذا قلت مخاطباً لصديقك : «إذا اشتريت الدار الفلاني يترتّب عليه كذا وكذا» لا يفهم منه إلاّ إمكان الاشتراء ، ولا يعبّر بمثل هذه العبارة إلاّ في مورد ثبوت الإمكان ، ومع عدمه يكون التعبير هكذا : «إن أمكن لك الاشتراء» .
مضافاً إلى ثبوت خصوصيّة في المقام ; وهو كون الكتاب ميراثاً للنبيّ الذي يكون خاتم النبيّين ، ويكون حلاله وحرامه باقيين إلى يوم القيامة ، فهل يمكن أن يكون مع ذلك غير ممكن للتمسّك ؟ وهل يتّصف حينئذ بأ نّه خلّفه النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وكان غرضه من ذلك إرشاد الاُمّة وهداية الناس إلى طريق الهداية ، والخروج من الضلالة ؟ فعلى تقدير عدم دلالة مثل هذا التعبير على ثبوت وصف الإمكان في غير المقام ، لا محيص عن الالتزام بدلالته عليه في خصوص المقام; للقرائن والخصوصيّات الموجودة فيه .
فانقدح من جميع ذلك تماميّة الاستدلال بالحديث الشريف من الوجه الأوّل ، الذي عرفت ابتناءه على الدعويين الثابتتين .
نعم ، يمكن أن يورد على الاستدلال به من هذا الوجه شبهات (1) لا بأس
- (1) أشار إلى بعضها في فصل الخطاب ، الباب الثاني، الأمر الخامس: 340ـ 341 .
(الصفحة 232)
بإيرادها والجواب عنها ، فنقول :
الشبهة الاُولى : أنّه لا يعتبر في التمسّك بشيء أن يكون المتمسّك به موجوداً حاضراً ، وكان تحت اختيار المكلّف ، وهذا كما في التمسّك بالعترة التي هي إحدى الحجّتين ، وواحد من الثقلين; فإنّه لا يعتبر في تحقّقه حياتهم ، فضلاً عن حضورهم ، وعدم غيابهم ; ضرورة ثبوت هذا الوصف لنا بالإضافة إلى أئمّتنا المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ مع عدم إمكان تشرّفنا إلى محضرهم في أعصارنا هذه ، وعدم الحضور أيضاً لخاتمهم عجّل الله تعالى فرجه ، فلا يعتبر في تحقّق التمسّك وجودهم ، فضلاً عن حضورهم ، ومثل ذلك يجري في التمسّك بالكتاب من دون فرق ، فالتحريف الموجب لضياعه على الاُمّة لا يستلزم عدم إمكان التمسّك به .
والجواب : وضوح الفرق بين التمسّك بالعترة ، والتمسّك بالكتاب ; فإنّ التمسّك بالشخص ـ ولو مع حياته وحضوره ـ معناه اتّباعه والموالاة له ، والإطاعة لأوامره ونواهيه ، والأخذ بقوله ، والسير على وفقه وعلى سيرته ، ولا حاجة في ذلك إلى الاتّصال به ، والتشرّف بمحضره ، والمخاطبة معه ، بل يمكن ذلك مع موته ، فضلاً عن غيبته ، ومن هذه الجهة نحن متمسِّكون بهم جميعاً في زمن الغيبة ، وأيّ تمسّك أعظم من تعظيم الفقهاء الراوين للحديث ، والأخذ بقولهم ، اتّباعاً لما ورد في التوقيع الوارد في جواب مسائل إسحاق بن يعقوب ، الدالّ على وجوب الرجوع في الحوادث الواقعة إلى رواة الحديث ، معلّلاً بكونهم حجّته وهو حجّة الله على الناس (1) .
- (1) نصّ الحديث هكذا : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، كمال الدين: 484 قطعة من ح4، الغيبة للطوسي: 291 قطعة من ح247 ، الاحتجاج: 2 / 543 قطعة من الرقم 344 ، وعنها وسائل الشيعة: 27/140 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح9، وبحار الأنوار: 53/181 قطعة من ح10. وفي منتخب الأنوار المضيئة: 228 ، والخرائج والجرائح: 3 / 1114 قطعة من ح30 عن ابن بابويه . وفي كشف الغمّة: 2 / 531 عن إعلام الورى: 2 / 271 . وفي بحار الأنوار: 2 / 90 ح13 وعوالم العلوم: 3 / 410 ح10 عن الاحتجاج . وفي ج78 / 380 ح1 عن الدرّة الباهرة: 47 .
(الصفحة 233)
وأمّا التمسّك بالكتاب; فهو لا يمكن تحقّقه مع عدم وجوده بين الاُمّة ، وكونه ضائعاً عليهم ، فكيف يعقل التمسّك به مع عدم العلم بما تضمّنه لأجل تحقّق النقيصة فيه على هذا الفرض ، فبين التمسّكين فرق واضح .
الشبهة الثانية : أنّه وإن كان يعتبر في التمسّك بالكتاب وجوده وثبوته ، إلاّ أنّ هذا الوصف ثابت للقرآن الواقعي ; لوجوده عند الإمام الغائب ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ وإن لم يمكن الوصول إليه عادة .
والجواب : ظهر ممّا تقدّم أنّ الوجود الواقعي للكتاب لا يكفي في إمكان التمسّك به ، بل اللاّزم أن يكون باختيار الاُمّة وقابلاً للرجوع إليه ، والأخذ به ، والسير على هداه ، والاستضاءة بنوره ، والاهتداء بهدايته ، كما هو أوضح من أن يخفى .
الشبهة الثالثة : أنّ المقدار الذي تكون الاُمّة مأمورة بالتمسّك به ، هو خصوص آيات الأحكام ; لأنّها المتضمّنة للتشريع ، وبيان للقوانين العمليّة ، والأحكام الفرعيّة ، ولا بأس بأن يكون الحديث دالاًّ على إمكان التمسّك بالكتاب بهذا المقدار ، فيدلّ على عدم التحريف بالإضافة إليه ، ولا ينفي وقوعه في الآيات الاُخرى غير المتضمِّنة للأحكام .
والجواب : أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه (صلى الله عليه وآله) ليس الغرض منه مجرّد بيان الأحكام والقوانين العمليّة ، بل الغرض منه الهداية وإخراج الناس من الظلمات
(الصفحة 234)
إلى النور من جميع الجهات . ومن المعلوم أنّ العمدة في تحصيل هذا الغرض المهمّ هي ما يرجع إلى الاُصول الاعتقاديّة ، ومسائل التوحيد والنبوّة والإمامة وأشباهها ، وحينئذ فكيف يسوغ القول بأنّ الغرض من الأمر بالتمسّك به هو التمسّك بخصوص آيات الأحكام العمليّة منها ؟ إذ ليس هو كتاباً فقهيّاً فقط .
وعليه: فالتمسّك المأمور به هو التمسّك به من جميع الجهات التي لها مدخليّة في السير إلى الكمال ، وحصول الخروج من الظلمات إلى النور ، وتحقّق الهداية ، ومحو الضلالة والجهالة ، فالاستدلال بالحديث على عدم وقوع التحريف في شيء من آياته تامّ لا شبهة فيه ولا ارتياب ، كما لا يخفى على اُولي الألباب .
الوجه الثاني : أنّ الظاهر من الحديث أ نّ كلاًّ من الثقلين حجّة مستقلّة ، ودليل تامّ في عرض الآخر وفي رتبته ; بمعنى عدم توقّف حجّية كلّ منهما على الآخر ، وعدم الافتقار إلى تصويبه وإمضائه ، لا بمعنى كون كلّ واحد منهما كافياً في الوصول إلى الكمال الممكن ، والخروج من الضلالة ، وارتفاع خوف الجهالة ; فإنّ هذا الأثر قد رتّب في الحديث على الأخذ بمجموع الثقلين ، والتمسّك بكلا الميراثين ، بل بمعنى كون الأثر وإن كان كذلك إلاّ أ نّه لا ينافي الاستقلال ، وتماميّة كلّ منهما في الحجّية والدليليّة .
والغرض أ نّ الحجّة ليست هي المجموع ، بل كلّ واحد منهما من دون توقّف على الآخر ، ومن دون منافاة ومضادّة لترتّب الأثر ، والغرض على الأخذ بالمجموع والتمسّك به ، وهذا كما أنّ كلّ واحد من الأدلّة الأربعة المعروفة ـ الكتاب والسنّة والعقل والإجماع ـ دليل وحجّة مستقلّة في الفقه ، مع أنّ الاستنباط ، واستكشاف الحكم يتوقّف على لحاظ المجموع ورعاية الكلّ .
وبالجملة : الحديث ظاهر في كون كلّ واحد من الثقلين دليلاً وحجّة مستقلّة ، وحينئذ نقول : بناءً على عدم التحريف ، وعدم كون القرآن الموجود فاقداً
(الصفحة 235)
لبعض مانزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وخالياً عن بعض الآيات والجملات ، يكون هذا الوصف ـ وهي الحجّية المستقلّة ـ ثابتاً للقرآن ، ولا يتوقّف على إمضاء الأ ئـمّة (عليهم السلام) وتصويبهم للاستدلال به .
وأ مّا بناءً على التحريف وثبوت النقيصة ، فإن كان الرجوع إليه متوقّفاً على إمضائهم (عليهم السلام) ، فهذا ينافي الحجّية المستقلّة التي يدلّ عليها الحديث ، كما هو المفروض . وإن لم يكن كذلك ; بأن يدّعي القائل جواز التمسّك به من دون المراجعة إليهم ، والتوقّف على إمضائهم ، فواضح أنّ الرجوع غير جائز .
توضيحه : أ نّه ربما يقال : إنّ الوجه في عدم جواز الرجوع إلى ظواهر الكتاب ـ مع العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه ـ هو العلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر ، ومع هذا العلم يسقط كلّ ظاهر عن الحجّية ، كما هو شأن العلم الإجمالي في سائر الموارد .
ولكنّه أجاب عن هذا القول المحقّق الخراساني(قدس سره) في «الكفاية» بما هذه عبارته :
إنّه ـ يعني العلم الإجمالي بوقوع التحريف ـ لا يمنع عن حجّية ظواهره ; لعدم العلم بوقوع الخلل فيها بذلك أصلاً ، ولو سلّم فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام ، والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجّية آياتها ; لعدم حجّية سائر الآيات ، والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجّيتها إذا كانت كلّها حجّة ، وإلاّ لا يكاد ينفكّ ظاهر عن ذلك ، كما لا يخفى ، فافهم .
نعم ، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتّصل به لأخلّ بحجّيته ; لعدم انعقاد ظهور له حينئذ ، وإن انعقد له الظهور لولا اتّصاله (1) .
وهذا الجواب: وإن لم يكن خالياً عن المناقشة ; لعدم انحصار الحجّية بخصوص
- (1) كفاية الاُصول: 284 ـ 285 حجّية ظواهر الكتاب .