(الصفحة 341)
معنى وللإستقبال معنىً آخر ، فلا ارتباط لإحدى المسألتين بالاُخرى .
ومنه يظهر أنّ المصلّي مع وصف كونه مستقبلا حقيقة تارةً يكون بحيث لايلتفت أصلا ، واُخرى بحيث يلتفت قلباً فقط ، وثالثة بالقلب والعين ، ورابعة بالوجه أيضاً ، ولا يخرج عن الإستقبال بمجرّد إنصراف الوجه عن القبلة، لأنّه لايكون المعتبر في الصلاة هوالإستقبال بالوجه حتّى ينافيه الإلتفات والإنصراف به، وأمّا قوله تعالى :
{فولّوا وجوهَكُم شَطرَهُ}(1) ، كنايةٌ عن التوجّه إلى الكعبة بجميع مقاديم البدن، لعدم انفكاك الإستقبال بالمقاديم عن التوجّه بالوجه غالباً ، وليس المراد به هو كفاية الإستقبال بالوجه فقط حتّى تتّحد المسألتان .
ثمّ إنّ المراد من الإلتفات الفاحش ليس الإلتفات الحقيقي ـ خلف الوجه ـ فإنّه مستحيل ، بل المراد به هو الإلتفات بحيث يرى خلفه ولو بأوّل مراتبه ، فإذا كان بحيث يصل إلى أوّل مراتب الخلف فيفسد الصلاة ، وإذا لم يصل إليه بأنّ نظر بالعين إلى اليمين أو اليسار فلا يوجب البطلان ، فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الإلتفات غير عدم الإستقبال .
ثمّ إنّ رواية عبدالملك المتقدّمة تدلّ بظاهرها على كراهية الإلتفات ، وهل المراد بالالتفات فيها هو الإلتفات بجميع مراتبه ، أو خصوص بعض المراتب نظراً إلى الجمع بينها وبين الروايات الاُخر؟ فيه وجهان :
و رواية أبي بصير ـ لأجل احتمال أن يكون المراد بالإنصراف المذكور فيها هو الإنصراف عن القبلة بجميع المقاديم فتكون مربوطة بباب القبلة ـ لا يمكن أن تجعل دليلا على بطلان الصلاة بالالتفات المبحوث عنه في المقام .
ورواية زرارة الدالة على كون الإلتفات قاطعاً إذا كان بكلّه ، فقد عرفت أنّ في
(الصفحة 342)
معناها إحتمالين ، فعلى الإحتمال الأوّل الذي مرجعه إلى كون المراد هو الإلتفات بجميع البدن، تكون أجنبيةً عن المقام ، ومربوطةً بمسألة الإستقبال .
وأمّا على الإحتمال الثاني تكون متعرّضة لحكم المقام ، ولفظ الإلتفات المذكور فيها وإن كان يناسب الإحتمال الثاني إلاّ أن حمل قوله(عليه السلام) : «بكلّه» على مراتب الإلتفات بعيد ، لأنّ الظاهر منه هو كون المراد الإلتفات بجميع البدن .
وبالجملة: فالظاهر أنّ الضمير فيه يرجع إلى الملتفت والمصلّي دون الالتفات، وحينئذ فصدر الرواية باعتبار ذكر الالتفات مناسب للإحتمال الثاني وذيلها يناسب الإحتمال الأوّل .
ثمّ إنّه على فرض أن يكون المراد بقوله : «بكلّه» هو الإلتفات بكل المصلّي والملتفت بجميع بدنه ، فهل يكون مدلول الرواية عدم بطلان الصلاة إذا لم يكن الإلتفات بجميع البدن، فيتحقق التعارض بين مفهومها ومنطوق سائر الروايات الدالة على البطلان إذا كان الإلتفات فاحشاً، وإن لم يكن بجميع البدن ، أو أنّ الرواية لا تدلّ إلاّ على مجرّد بطلان الصلاة إذا التفت المصلّي بكلّه ولا تدلّ على عدم البطلان في غيره؟
وبعبارة أخرى : مفاد الرواية هو أنّ الإلتفات بمجرّده لا يكون قاطعاً للصلاة ، بل المتّصف بهذا الوصف هو الإلتفات مع أمر زائد ، فالموضوع للحكم بالقاطعية أمر مركّب من الإلتفات وشيء آخر، وأمّا كون الأمر الآخر الذي به يتحقق الموضوع فيترتّب عليه الحكم ، هو خصوص قيد «بكلّه» فلا يستفاد من الرواية أصلا وحينئذ فلا منافاة بينها وبين ما يدلّ على قاطعية الإلتفات إذا كان فاحشاً، نظير قوله(عليه السلام) : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1) . فإنّ المستفاد منه أنّ تمام
- (1) الوسائل 1 : 158 ـ 159. أبواب الماء المطلق ب9 ح1 ، 2 ، 5 ، 6.
(الصفحة 343)
الموضوع للحكم بعدم التنجّس ليس الماء بإطلاقه ، بل هو مع خصوصية زائدة ، وأمّا كون الخصوصية الزائدة منحصرة في بلوغها قدر كرّ فلا يستفاد منه، فلا ينافي حينئذ قيام قيد آخر مقام الكرّية ، كالجريان ونحوه .
هذا ، ولا يخفى أنّ قوله(عليه السلام) : «لا» ، في رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة في مقام الجواب عن سؤاله «عن الرجل هل يلتفت في صلاته؟» يفيد بظاهره أنّ تمام الموضوع هو مجرّد الإلتفات، وحينئذ فيحصل التعارض بينها وبين رواية زرارة الدالة على عدم كون تمام الموضوع هو نفس الإلتفات . إلاّ أن يقال : إنّ قوله(عليه السلام) : «لا» ، لا ظهور له في بطلان الصلاة بالالتفات ، بل مفاده مجرّد الكراهة ، ويؤيّده قوله : «ولا ينقض أصابعه» كما لا يخفى، فلا تعارض بينهما .
وأمّا رواية الحلبي فتدلّ على بطلان الفريضة بالالتفات الفاحش ، ويساويها في هذاالمضمون حديث الأربعمائة، وكذا رواية محمّد بن إدريس من جهة الإشتمال على التخصيص بالفريضة، وأمّا من جهة خصوصية الإلتفات فهي تشتمل على التفصيل بين اليمين واليسار و بين الخلف; ويساويها في هذه الجهة رواية عليّ بن جعفر.
ومقتضى الجمع بينهما وبين رواية الحلبي والأربعمائة المشتملتين على تقييد الإلتفات بالفاحش أن يقال : إنّ المراد بالفاحش هو الإلتفات إلى الخلف ، فهاتان الروايتان مفسّرتان للمراد من الفاحش المذكور فيهما; فانقدح أنّ الإلتفات الفاحش أي الإلتفات إلى الخلف يوجب بطلان الصلاة ، والإلتفات غير الفاحش أي الإلتفات إلى اليمين أو اليسار لا يضرّ أصلا .
(الصفحة 344)
القاطع الثالث :
التأمين بعد قراءَة الفاتحة
وقد وردت فيه روايات كثيرة :
فمنها : رواية جميل عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا كنت خلف إمام فقرأ الحمد وفرغ من قراءتها فقل أنت : الحمد لله ربّ العالمين ، ولا تقل: آمين»(1) .
ومنها : رواية معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : أقول: آمين إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالّين؟ قال : «هم اليهود والنصارى، ولم يجب في هذا»(2) .
ومنها : رواية محمّد الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) أقول إذا فرغت من فاتحة الكتاب : آمين؟ قال : «لا»(3) .
- (1) الكافي3 : 313 ح5; التهذيب 2 : 74 ح 275، الاستبصار1 : 318 ح1185; الوسائل 6 : 67 . أبواب القراءة في الصلاة ب17 ح1.
- (2) التهذيب 2 : 75 ح278; الاستبصار1 : 319 ح1188 ; الوسائل 6 : 67 . أبواب القراءة في الصلاة ب17 ح 2 .
- (3) التهذيب 2 : 74 ح276; الاستبصار1 : 318 ح1186 ; الوسائل 6 : 67 . أبواب القراءة في الصلاة ب17 ح3.
(الصفحة 345)
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) الواردة في كيفية الصلاة المشتملة على قوله(عليه السلام) : «ولا تقولنّ إذا فرغت من قراءتك: آمين ، فإن شئت قلت : الحمد لله ربّ العالمين»(1) .
ومنها : رواية جميل ، قال : سألت أباعبدالله(عليه السلام) عن قول النّاس في الصلاة جماعةً حين يقرأ فاتحة الكتاب : آمين؟ قال : «ما أحسنها! واخفض الصوت بها»(2) .
ثمّ إنّ المحقّق في المعتبر ذهب إلى تقديم رواية جميل هذه على رواية محمّد الحلبي لضعفها بمحمّد بن سنان ، وصحّة هذه الرواية ، فلذا أفتي بالكراهة(3) . ولا يخفى أنّه مع تسليم ما ذكره من تقديم رواية جميل على رواية الحلبي ، لا معنى للفتوى بالكراهة مع التعبير في رواية جميل بقوله(عليه السلام) : ما أحسنها .
نعم لو كانت كلمة «ما» فيها، نافية سواء كان الفعل المنفيّ من باب التفعيل أو من باب الإفعال مع كونه بصيغة المتكلّم وحده كما احتمل الأمرين في المصباح(4) ، لأمكن الفتوى بالكراهة استناداً إلى الرواية ، ولكنّه بعيد ، فإنّ معنى قول الرجل : إنّي ما أحسن ذلك نظير قوله : فلان يحسن الفاتحة أي يعرفها بالوجه الحسن ، وهذا لا يناسب شأن الإمام(عليه السلام); مضافاً إلى أنّ ذلك لا يلائم مع ذيل الرواية الدالّ على وجوب خفض الصوت بها كما لايخفى .
فالظاهر أنّ قوله : «ما أحسنها» إنّما هو بصيغة التعجّب وحينئذ فاللازم حمل الرواية على التقية ، لأنّها لا تقاوم سائر الروايات الدالة على تحريم التأمين ، مضافاً
- (1) علل الشرائع : 358 ب74 ح1; الوسائل 5: 464. أبواب أفعال الصلاة ب1 ح6.
- (2) التهذيب2 : 75 ح277; الإستبصار 1: 318 ح1187; الوسائل 6 : 68 . أبواب القراءة في الصلاة ب17 ح5 .
- (3) المعتبرق2 : 186.
- (4) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 312.