(الصفحة 138)
وامّا الرواية الثانية فلا إشكال في أنّ مرجع الضمير فيها هو الماء الموجود في الحياض لا المموع منه ومن المادّة لأنّ خصوص ما في الحياض كان مورداً لابتلاء الناس فالسؤال إنّما وقع عنه، مضافاً إلى أنّ تنزيل المجموع بالماء الجاري ممّا لا يصدر من البليغ العادي فضلاً عن الإمام(عليه السلام) لعدم المشابهة بينهما ـ حينئذ ـ أصلاً، وهذا بخلاف ما لو كان المراد منه هو خصوص الماء الموجود في الحياض فإنّ التنزيل على هذا التقدير تنزيل لطيف مرجعه إلى أنّه كما يكون الماء الجاري مستمدّاً من المادّة متقوّياً بها كذلك يكون ماء الحمّام مستمدّاً من مادّته الجعلية، متقوّياً بها معتصماً بسببها، فلا يتأثّر بملاقاة النجس.
ثمّ إنّه لا يمكن التمسّك لتقوي السافل بالعالي بالأخبار الواردة في ماء الحمّام، لأنّه متوقّف ـ أوّلاً ـ على إلغاء الخصوصية منها، وـ ثانياً ـ على عدم اعتبار الكرية في مادّة الحمّام، وقد عرفت انّه لا مجال لإلغاء الخصوصية وعلى تقديره فالمتمسك ممّن يعتبر الكرية في مادّة الحمّام.
الثاني: إذا حصل التغيّر لبعض أجزاء الكر وكان الباقي كراً أيضاً فلا خفاء في عدم نجاسة الباقي بعد اعتصامه وعدم عروض التغير له كما أنّه لا ريب في نجاسة المقدار المتغيّر بسبب حصول التغيّر له، إنّما الإشكال في كيفية تطهيره والمختار كما مرّ البحث فيه توقّفه على الامتزاج بالباقي بحيث يزول تغيّره بسببه كما أنّه لو كان هناك كر متغيّر بجميع أجزائه يكون حصول الطهارة له متوقّفاً على زوال تغيّره وحصول امتزاجه بالماء المعتصم ولكنّه قد يقال في باب الكر بأنّ زوال التغيّر ولو من غير ناحية المطهر المعتصم يكفي في ارتفاع النجاسة لما يستفاد من الأخبار الكثيرة من كفاية زوال التغيّر بأي وجه اتفق:
منها: صحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: كلّما غلب الماء على ريح
(الصفحة 139)
الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب.
فإنّ مقتضى الرواية انّ المناط في جواز الوضوء والشرب هو غلبة الماء على ريح الجيفة، سواء كانت الغلبة حاصلة من الأوّل أو بعد التغيّر.
وفيه انّ ظاهر الرواية هي غلبة الماء بما هو ماء على ريح الجيفة فإذا زال التغيّر من ناحية شيء آخر لم تحصل غلبة الماء بما هو ماء بل حصلت بواسطة شيء آخر فحكم هذا المورد غير مذكور في الرواية أصلاً إلاّ أن يقال بثبوت المفهوم لها.
ومنها: موثقة سماعة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يمرّ بالماء وفيه دابة ميتة قد أنتنت، قال: إذا كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ ولا تشرب.
فإنّ مفادها انّ المناط ف ي عدم جواز الوضوء والشرب هو كون النتن غالباً على الماء، وبعد زوال التغيّر لا يكون هذا المناط باقياً فلا وجه لبقاء النجاسة.
ويرد عليه انّه يحتمل قويّاً أن تكون الرواية واردة في مقام بيان حكم الحدوث فلا تعرض فيها لحكم البقاء.
ومنها: رواية عبدالله بن سنان قال: سأل رجل أبا عبدالله(عليه السلام) ـ وأنا حاضر ـ عن غدير أتوه وفيه جيفة، فقال: إذا كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضّأ.
فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا كان الماء قاهراً من الأوّل أو بعد كونه مقهوراً للنجاسة.
وفيه ما عرفت في الجواب عن الاستدلال برواية حريز ـ المتقدّمة ـ من أنّ ظاهر الرواية كون الماء قاهراً بوصف كونه ماء على ريح النجاسة، وبعد فرض كونه مقهوراً حين الحدوث لا يعقل أن تعرض له القاهرية إلاّ لأجل شيء آخر ومعه لا يصدق انّ الماء من حيث هو ماء قاهر عليها، فالرواية غير متعرّضة لحكم المقام لو
(الصفحة 140)
لم نقل بكون مدلولها هو بقاء النجاسة في هذا الفرض وعدم ارتفاعها.
ومنها: رواية علاء بن الفضيل قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الحياض يُبال فيها، قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول.
فإنّ مفادها انّ العلّة المنحصرة لعدم البأس هي غلبة لون الماء على لون البول وهي متحقّقة فيما لو زال التغيّر وإن كان بنفسه.
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف السند ـ انّ الظاهر كون الرواية متعرّضة لحكم الحدوث فقط ولا دلالة لها على حكم البقاء بوجه. فظهر انّ الاستدلال بهذه الروايات في غير محلّه.
نعم يمكن أن يستدلّ لذلك بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ـ المتقدّمة ـ الواردة في ماء البئر لأنّ مقتضى قوله(عليه السلام) : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر» انّ علّة حدوث الفساد وزوال الطهارة هو مجرّد عروض وصف التغيّر للماء، ومقتضى قوله(عليه السلام) في الذيل: «فينزح حتى يذهب الريح ويطيب الطعم» انّ مجرّد زوال التغيّر يؤثِّر في ارتفاع النجاسة، إذ ليس للنزح خصوصية بل الملاك صيرورة الماء بحيث طاب طعمه وذهبت ريحه فمفاده ـ صدراً وذيلاً ـ انّ التغيّر يدور مداره النجاسة ـ حدوثاً وبقاءً ـ فهي العلّة التامّة لحدوث النجاسة وبارتفاعها تزول كما هو الشأن في كلّ معلول بالإضافة إلى علّته.
ولكنّك خبير بأنّه وإن لم يكن للنزح خصوصية في ارتفاع النجاسة ـ كما مرّ مراراً ـ إلاّ أنّه قد ذكرنا سابقاً انّ المناط في كون الشيء قابلاً للتطهير هو بقائه بعد ارتفاع النجاسة وعروض الطهارة بحيث لو لم يكن دليل على قابلية الماء أيضاً للتطهير لقلنا بعدم القابلية إلاّ بعد الاستهلاك الذي مرجعه إلى انتفاء الموضوع وزوال الحقيقة، ولكنّه بعد قيام الدليل على الخلاف وانّ الماء يكون كالجامدات
(الصفحة 141)
المتنجّسة قابلاً للتطهير لا يمكن رفع اليد عمّا هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء في باب التطهير من أنّ تطهير كلّ شيء إنّما هو بوصول الماء إلى أجزائه المتنجّسة، ويؤيّده انّه لو ورد مثلاً : انّ المتنجّس بالدم يطهر بإيصال الماء إليه حتى يزول لا يمكن أن يقال: إنّ الملاك في ارتفاع النجاسة هو زوال الدم بأي وجه اتفق بالماء أو بغيره، بل للماء خصوصية في باب التطهير.
وبالجملة: معنى الرواية ـ على ما عرفته سابقاً ـ انّ تطهير البئر إنّما يحصل بخروج الماء الجديد العاصم من المادّة وامتزاجه بالمياه الموجودة في البئر إذ الظاهر انّ التعليل الوارد فيها يرجع إلى القضية المطوية في الذيل وهي عروض الطهارة وتجدّدها بعد ذهاب الريح وطيب الطعم، ومعه لا يكون الوجه مجرّد زوال التغيّر بل زواله بنحو خاص وهو امتزاج المياه الخارجة من المادّة مع المياه الموجودة في البئر وقد تقدّم تفصيله فلا نطيل.
ولو سلم انّ ماء البئر تزول نجاسته بمجرّد زوال التغيّر وارتفاعه بأي وجه اتفق فما الدليل على أنّ حكم الماء الكثير غير البئر أيضاً يكون كذلك وهل تسريته ترجع إلى غير القياس الصرف أم لا ترجع إلاّ إليه كما هو ظاهر.
وقد يستدلّ في المقام بقوله(عليه السلام) : «إذا بلغ الماء كراً لم يحتمل خبثاً» نظراً إلى أنّ ظاهره انّ البلوغ إلى ذلك الحدّ مانع عن حمله للخبث مطلقاً، وقد ثبت تقييده بما إذا تغيّر بأحد أوصاف الناسة، وفي غير هذا المورد لم يثبت تقييده فيجب الاقتصار على القدر المتيقّن وهو ما إذا كان التغيّر باقياً غير زائل، والمرجع في غيره الذي منه المقام هو الإطلاق.
وفيه ما عرفت في الجواب عن هذه الرواية في مسألة إتمام القليل المتنجّس كراً من عدم ثبوت هذه الرواية في شيء من كتب الأحاديث للمخالف والمؤالف كما
(الصفحة 142)
اعترف به المحقّق في المعتبر وإن ادّعى ابن إدريس إجماع الفريقين على نقلها وصحّتها، وعلى فرض الثبوت والاعتبار قد عرفت انّ مفادها لا يكون زائداً على مفاد الأخبار المعروفة الدالّة على اعتصام الكر ولا فرق بين مدلوليهما أصلاً خلافاً لبعض الأعلام كما مرّ في تلك المسألة.
ثمّ إنّه قد يستدلّ لذلك بقاعدة الطهارة بعد الاعتراض على استصحاب النجاسة الوارد على أصالة الطهارة ـ كما حقّق في محلّه ـ .
ومحصل الاعتراض انّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن تكون القضية المشكوكة متّحدة مع القضية المتيقّنة من حيث الموضوع والمحمول، وهنا ليس كذلك فإنّ الموضوع في القضية المتيقّنة هو الماء الموصوف بالتغيّر، فاسراء حكمه إلى الماء الذي زال تغيّره اسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر مغاير معه.
وأجاب عنه صاحب المصباح(قدس سره) بأنّ المعروض للنجاسة هو نفس الماء والتغيّر علّة لعروضها، والشكّ إنّما نشأ من احتمال انّ عروض النجاسة كما يكون مسبّباً عن حدوث التغيّر، كذلك بقائها يكون مسبّباً عن بقائه بحيث تدور مداره، أو أنّ التغيّر ليس علّة إلاّ لحدوث النجاسة، وبقائها مستند إلى اقتضائها الذاتي، فلا يجوز في مثل ا لمقام نقض اليقين بالشكّ ورفع اليد عن النجاسة المتيقّنة الثابتة لهذا الماء الموجود بمجرّد احتمال أن يكون زوال التغيّر مؤثِّراً في زوالها.
ولكن الظاهر أنّه لو قلنا بأنّ الموضوع في الأدلّة الواردة في الحكم بالنجاسة هو الماء الموصوف بالتغيّر بأن يكون التغيّر مأخوذاً في الموضوع فلا مانع أيضاً من جريان الاستصحاب وذلك لأنّ مجرى الاستصحاب قد يكون هو العنوان المأخوذ موضوعاً في لسان الدليل، وقد يكون هو المصداق المنطبق عليه ذلك العنوان في الخارج.