(الصفحة 157)
اشتمال الموثقة على الأبعاد الثلاثة.
وأنت خبير بأنّه على فرض دلالة الرواية على التعرّض للبُعدين لا وجه لدعوى ظهورها في الدائرة وأيّ فرق بينها وبين الرواية الثانية لإسماعيل بن جابر حيث حملها على الأبعاد الثلاثة مع اشتمالها على ذكر بعدين فقط وأعجب من ذلك تصريحه في المقام بأنّ ظهور الرواية في الدائرة كظهور صحيحتي إسماعيل بن جابر فيها مع تصريحه كما عرفت بعدم كون الثانية منهما ناظرة إلى الدائرة بوجه ولذا اعترضنا عليه آنفاً بأنّه لا وجه للفرق بين الصحيحتين كما لا يخفى.
والتحقيق أن يقال: إنّه لا مجال لحمل قوله: «ثلاثة أشبار ونصف» بعد قوله: «في مثله» على الخبر بعد الخبر وذلك لأنّه بناءً عليه يلزم أن يكون النصف منصوباً مكتوباً مع الألف ودعوى كون الكتابة في الخبر الأوّل أيضاً كذلك مدفوعة مضافاً إلى أنّه قد رواها في الوافي بصورة النصب ان حمله على الغلط لا يوجب حمل الثاني عليه أيضاً، وعليه فلابدّ من أن يكون بياناً لقوله: «في مثله» وـ حينئذ ـ يستفاد من الرواية انّ قوله: «في مثله» شروع في بيان البُعد الآخر بعد تمامية بيان البُعد الأوّل لأنّه بناء على ما ذكر لا يمكن أن يكون هذا القول متعلّقاً بالبُعد الأوّل كما هو واضح، وعليه فهل لا يكون هذا موجباً لظهور قوله: «في عمقه» في بيان البُعد الثالث أم يكون موجباً له، غاية الأمر انّ مقدار العمق لا يكون مذكوراً والظاهر انّ الوجه في عدم التعرّض ظهور المراد وانّ مقداره هو مقدارهما فالإنصاف تمامية دلالة الرواية على مذهب المشهور.
ومنها: رواية حسن بن صالح الثوري عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إذا كان الماء في الركي كرّاً لم ينجسه شيء، قلت: وكم الكر؟ قال: ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها. والركي: جمع الركية وهي البئر، وهذه الرواية باعتبار
(الصفحة 158)
انّ موردها هي الركية ومن المعلوم انّها على نحو الدائرة تخالف ما عليه المشهور سيما بعد ذكر العرض فقط في مقابل العمق، ولو سلّم التعميم باعتبار انّ السؤال إنّما وقع عن مقدار الكر مطلقاً ـ من دون تقييد بالماء الموجود في الركي ـ فلا محالة لا يكون المورد خارجاً عن ذلك الحكم العام إلاّ أنّ سند الرواية ضعيف باعتبار الحسن بن صالح. مع أنّ الرواية نقلت عن الاستبصار مع زيادة: «ثلاثة أشبار ونصف طولها» في أوّل الرواية وإن كان الكافي والتهذيب خاليين عن الزيادة وعلى ذلك فيحتمل كون الصادر من الإمام(عليه السلام) مشتملاً على بيان الأبعاد الثلاثة وإن كان يبعده ـ أوّلاً ـ عدم كون المورد وهو الركي ذات الأبعاد الثلاثة و ـ ثانياً ـ خلوّ الكافي الذي هو أضبط الكتب الأربعة والتهذيب الذي مؤلِّفه نفس الشيخ(قدس سره) عن الزيادة ـ وثالثاً ـ ذكر العمق في وسط الطول والعرض مع أنّ التداول إنّما يقتضي ذكر الطول والعرض ثمّ بيان العمق كما لا يخفى، ولكن مع ذلك كلّه لقائل أن يقول: إنّ احتمال النقيصة أقوى من احتمال الزيادة عند دوران الأمر بين الاحتمالين.
هذه هي عمدة الروايات الواردة في المقام وأصحّها ـ على ما قيل ـ صحيحة إسماعيل بن جابر المتضمّنة للذراع والشبر التي عرفت انّ مفادها ستّة وثلاثين شبراً لكنّها معرض عنها لدى الأصحاب، قال في محكي المنتهى ـ بعد ذكر الصحيحة ـ : «وتأوّلها الشيخ على احتمال بلوغ الأرطال وهو حسن لأنّه لم يعتبر أحد من أصحابنا هذا المقدار» مضافاً إلى ما عرفت منّا من عدم كونها رواية اُخرى في مقابل صحيحته الاُخرى بل الظاهر كونهما رواية واحدة والجواب الصادر منه(عليه السلام) غير معلوم، وبهذا ظهر عدم إمكان الاعتماد على روايته الاُخرى أيضاً التي هي عمدة مستند القمّيين أو خصوص ابن بابويه منهم فلا يبقى من الروايات المعتبرة من حيث السند التامّة من حيث الدلالة إلاّ رواية أبي بصير التي هي مستند
(الصفحة 159)
المشهور وعلى تقدير التعارض بين دليلهم ودليل القمّيين بدعوى كونه رواية مستقلّة معتبرة لأنّ ابن سنان فيها هو عبدالله لا محمّد أو انّ محمّداً أيضاً ثقة كما اختاره بعض المتأخّرين من الرجاليين ودلالتها أيضاً على الأبعاد الثلاثة ظاهرة لكان الترجيح أيضاً مع دليل المشهور لموافقته للشهرة الفتوائية التي هي أوّل المرجّحات ـ على ما هو التحقيق ـ فالأحوط بل الأقوى ما عليه المشهور.
بقي الكلام فيما هو المهمّ في المقام من رفع التنافي بين الروايات الدالّة على تقدير الكر بالأشبار وبين ما يدلّ على تقديره بالوزن، حيث إنّ تقديره بالوزن يكون ـ دائماً أو غالباً ـ أقلّ من ثلاث وأربعين شبراً كما حكي عن الأمين الاسترابادي انّه قدر ماء المدينة بالوزن المعيّن في الكر فلم يبلغ إلاّ ستّة وثلاثين شبراً، وعن ظاهر «مرآة العقول» للمجلسي(قدس سره) انّ وزنه يساوي ثلاثة وثلاثين شبراً تقريباً، وعن بعض أفاضل المتأخّرين أقلّ من ذلك.
وتحقيق المقام أن يقال: إنّه لا إشكال في أنّ أضبط التقديرات هو التقدير بالوزن، إذ ليس الوزن قابلاً لطرو الزيادة والنقصان عليه أصلاً، وهذا بخلاف غيره، وـ حينئذ ـ فنقول: ظاهر الروايات الواردة في تقدير الكر بالوزن انّ حدّ الكر بحسب الواقع هو هذا المقدار الذي لا يقبل الزيادة النقيصة، والروايات الدالّة على التقدير بالأشبار وإن كان ظاهرها أيضاً انّ حدّ الكرّ هو هذا المقدار الذي يكون مدلولاً لها إلاّ انّه من الواجب صرفها عن هذا الظهور باعتبار تفاوت الأشبار جدّاً، ولا ينحصر التفاوت بالأشخاص غير المتعارفة من حيث الشبر بل الأفراد المتعارفة المتوسطة تكون أشبارهم متفاوتة، وهذا التفاوت وإن كان قليلاً في شبر واحد إلاّ أنّه بالإضافة إلى ثلاث وأربعين شبراً ربّما يبلغ أشباراً متعدّدة وـ حينئذ ـ يعلم انّ بناء هذا التقدير كان على المسامحة والتسهيل بالإضافة إلى المكلّفين من حيث تعذّر
(الصفحة 160)
الوزن أو تعسّره غالباً، ومع ذلك فقد جعل هذا التقدير أمارة على المقدار الواقعي للكر بمعنى انّ التقدير بالأشبار يبلغ إلى ذلك المقدار الواقعي في جميع الأوقات، بل يكون أزيد منه غالباً فبناء التقدير بالأشبار وإن كان على التسهيل إلاّ أنّه مع ذلك قد روعي فيه الاحتياط بالإضافة إلى المقدار الواقعي للكر، وهذا الاحتياط إنّما هو للتحفّظ على الواقع والوصول إليه دائماً نظير الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، وليس من باب الاحتياط في الحكم ـ الذي لا يمكن وقوعه من الإمام(عليه السلام) ـ فالأخبار الواردة في المقام لا تكون متعارضة بعد التأمّل أصلاً، بل ما يدلّ منها على التقدير بالأشبار إنّما هو ناظر إلى التقدير بالوزن ـ الذي هو الأصل في باب التقادير ـ .
هذا مضافاً إلى أنّه من الواضح كون الحكم كلّياً مترتّباً على جميع المياه الموجودة في العالم فيمكن أن يكون الماء في الخفة إلى حدّ يكون تقديره بالوزن بالغاً إلى تكسير الأشبار المعيّنة في الكر إذ لا تكون المياه متساوية من حيث الوزن بل يختلف وزنها حسب اختلافها في الخفة وعليه يحمل الاختلاف فيما حكي عن الاعلام المتقدّمين في توزين ماء المدينة والنجف فتدبّر. وبهذا يجاب عمّا أورد على رفع التنافي بالنحو المذكور من أنّ التفاوت بين التحديدين حيث يكون ممّا لا يتسامح به لكثرته وبعد الفاصلة بينهما فلا مجال لأن يجعل أحدهما طريقاً ومعرفاً لما هو ناقص عنه بكثير.
وذلك ـ أي الجواب عن الإيراد ـ ما عرفت من أنّ كثرة التفاوت وبُعد الفاصلة إن كانت دائمية أو غالبية فهو يقدح في جعل الكثير طريقاً وأمارة لما هو الناقص عنه بكثير، وامّا إذا كان التفاوت مختلف والفاصلة متفاوتة فقد يكون أكثر وقد يكون أقلّ وقد لا يكون أصلاً لما عرفت من كون الحكم كلّياً من طرف وانّ المياه
(الصفحة 161)
الموجودة في العالم متفاوتة من حيث الخفّة جدّاً من طرف آخر فلا مانع من جعل الكثير طريقاً وأمارة أصلاً.
وبما ذكرنا يمكن الجمع بين نفس الروايات الكثيرة المتعارضة الواردة في خصوص التقدير بالأشبار بأن يقال: إنّ الحكم بالتقدير بالأقلّ من المقدار المشهور يمكن أن يكون لأجل خصوصية في المياه التي كانت موردة لابتلاء السائل، بها يبلغ المقدار الواقعي للكر ولو كان أقلّ من المقدار المشهور.
ويمكن الجمع بينها بنحو آخر وهو انّ الاختلاف بينها إنّما هو في نتيجة ضرب الأبعاد لا في نفس الأشكال المختلفة وإلاّ فهي متباينة، والمجعول علامة ليس هو النتيجة، ويؤيّد ذلك انّك لا تجد رواية من روايات الباب تعرّضت لذكر النتيجة، بل الجميع تضمّن التقدير بخصوص المسامحة الخاصة ولو كان المقصود التقدير بالنتيجة كان ذكرها هو المتعيّن فإنّه أخصر وأصرح وأفيد لكن لمّا كان تطبيق النتيجة من الاُمور الصعبة على أكثر الناس أهمل التعرّض لها فلم تجعل بياناً للمقدار ولا علامة على وجود المقدار أصلاً، وإنّما ذكر في البيان، الشكل الخاص لسهولة معرفته وترتّب الفائدة على بيانه، والأشكال كلّها متبائنات فلا مانع من أن يكون كلّ واحد منها علامة على وجود الكر المقدر حقيقة بالوزن لا انّه تقدير للكر.
ولكن الجمع بهذا النحو الأخير إنّما يتفرّع على كون موارد الروايات الواردة في الأشبار مختلفة من حيث الشكل الهندسي ولم يكن مورد واحد وشكل فارد قد ورد فيه روايتان مختلفتان وإلاّ فلا مجال لهذا الجمع وقد عرفت ثبوت الاختلاف في مورد واحد أيضاً، فالجمع الأوّل هو المتعيّن وإن حقّق الأخير صاحب المستمسك(قدس سره)فتدبّر جيّداً.