(الصفحة 228)
غير مستند إلى النجاسة ومن هنا حكم جماعة بطهارة ماء الاستنجاء ومنعوا عن استعماله في رفع الحدث لكن قد عرفت ضعف سند الرواية.
وامّا القول الثاني ـ وهو الطهارة مطقاً ـ فقد استدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّه يكفي فيه مجرّد قيام الدليل على النجاسة لأنّ مقتضى الأصل والعمومات هي الطهارة كما مرّ مراراً ـ بوجوه:
منها: أنّه يشترط في المطر أن يكون طاهراً لأنّ فاقد الشيء لا يعقل أن يكون معطياً له، فلو قلنا بنجاسة الماء بمجرّد ملاقاته مع المحلّ المتنجّس فكيف يمكن أن يكون مطهّراً له؟!
وفيه انّ المراد باعتبار طهارة المطهر إن كان هو اعتبار طهارته ولو بعد الفراغ عن التطهير فهو أوّل الكلام لأنّه مورد النزاع في المقام، وإن كان المراد اعتبار طهارته قبل استعماله في التطهير فنحن لا ننكره ولكن لا يثبت به المدّعى بوجه.
ومنها: انّه لا إشكال في أنّ المتنجّس فلا يمكن أن يكون مطهّراً لاستحالة أن يكون الشيء علّة لشيء ولضدّه أو نقيضه أيضاً، وـ حينئذ ـ لو قلنا بنجاسة الماء بمجرّد ملاقاته مع الخبث فاللاّزم سراية النجاسة منه إلى المحلّ لكونه نجساً والنجس منجّس فكيف يمكن أن يكون مع ذلك مطهّراً للمحلّ أيضاً.
وفيه انّ الأمر هنا دائر بين التخصيصين: امّا التخصيص في أدلّة انفعال الماء القليل بإخراج هذا الماء عن تحتها كما تقولون به، وامّا التخصيص في قاعدة «المتنجّس منجّس» لأنّه امّا أن يقال بطهارة الماء الوارد على النجس الملاقى له فيلزم التخصيص في أدلّة الانفعال، وامّا أن يقال بنجاسته فيلزم التخصيص في القاعدة، والأوّل ليس بأولى من الثاني لو لم نقل بأولويته من الأوّل لأنّ التخصيص الثاني لا يعدّ تخصيصاً بنظر العقلاء فإنّه لا يتوهّم أحد سراية النجاسة من الماء
(الصفحة 229)
المتأثّر عن المحلّ النجس إليه فخروج مثل هذا القسم إنّما هو على نحو التخصّص.
ومنها: انّ الماء الواحد له حكم واحد ـ إجماعاً ـ ومن المعلوم انّه لا إشكال في طهارة الأجزاء الباقية من الماء في الثوب بعد عصره بما هو المتعارف فلو قلنا بنجاسة الأجزاء الخارجة عنه بالعصر يلزم اختلاف حكم الماء الواحد وقد فرض انعقاد الإجماع على خلافه، وهكذا لا إشكال في طهارة القطرات الباقية على البدن بعد التطهير كما هو المسلّم عند المتشرّعة ولو قلنا بنجاسة الماء المنفصل عنه يلزم أيضاً ما ذكر من اختلاف حكم الماء الواحد.
وفيه انّا نمنع الوحدة بالنسبة إلى الأجزاء الباقية في الثوب والأجزاء الخارجة عنه بالعصر فإنّ هذه الأجزاء تكون أجزاء الثوب واسطة بينها، والأجزاء المنفصلة إنّما تجتمع بالعصر لا انّها مجتمعة ولو قبله و ـ حينئذ ـ ثبوت الطهارة بالنسبة إلى الأجزاء الباقية لا يستلزم ثبوتها بالنسبة إلى الأجزاء المنفصلة بعد عدم اجتماعهما قبل العصر فضلاً عن بعده. هذا بالنسبة إلى الثوب.
وامّا القطرات الباقية على البدن فلا ريب في أنّها زائدة على ما يتحقّق به مسمّى الغسل فإنّ التطهير يسمّى الغسل ممّا لا يكاد يتّفق عادة بل تكون الغسلات زائدة غالباً على ما يتحقّق به مسمّاها و ـ حينئذ ـ فطهارتها إنّما هي لعدم كونها ملاقية للنجس ولا للمتنجّس لفرض طهارة المحلّ بمجرّد تحقّق المسمّى، وكون بناء المتشرّعة على عدم التجنّب عن الأجزاء الباقية إنّما هو لذلك.
وإن شئت فقل في الجواب عن هذه الوجوه الثلاثة في مثل الثوب انّه ليس لماء الغسالة أكثر من حالتين: الاُولى قبل الملاقاة والثانية بعد الانفصال عن المحلّ، امّا بعد الملاقاة وقبل الانفصال فليس هناك ماء أصلاً حتّى يحكم عليه بالنجاسة أو الطهارة وذلك لفناء الماء واستهلاكه في الثوب وأمثاله ممّا يكون قابلاً للعصر وإذا لم
(الصفحة 230)
يكن موضوع فلا حكم وبه يتّضح الجواب عن الجميع لأنّ العصر على هذا لا يكون منجّساً بل كان موجباً لوجود الموضوع وهو الماء فيحكم عليه بالنجاسة بمقتضى أدلّة الانفعال ولا يكون الماء عين الملاقاة فاقداً للطهارة حتى لا يعقل أن يعطيها وليس لنا ماء أصلاً بعد الملاقاة وقبل العصر كي تسري نجاسته إلى المحل فهذه الوجوه الثلاثة غير تامّة.
ومنها: الأخبار الواردة في طهارة ماء الاستنجاء بتقريب انّه لا خصوصية لها بنظر العرف فلا فرق عندهم بين أن يكون الماء مستعملاً في غسل محلّ النجو، وبين أن يكون مستعملاً في تطهير غيره بل الثاني أولى من ماء الاستنجاء من جهة عدم عروض النجاسة له كما لا يخفى.
وأنت خبير بأنّه لا يجوز إلغاء الخصوصية من تلك الأخبار بعد ملاحظة انّ الشارع قد وسع في الاستنجاء حتى جوّزه بالأحجار وبغيرها فيمكن أن تكون طهارة مائه أيضاً حكماً مختصّاً به فلا يجوز قياس الغير إليه، وأيضاً فلا إشكال في أنّ الثوب إذا تنجّس بالبول يجب صبّ الماء عليه مرّتين ـ كما هو المشهور بل كاد أن يكون إجماعياً ـ مع أنّه أفتى بعض المحقّقين من الفقهاء كالمحقّق(قدس سره) بأنّه يكفي في غسل محلّ البول إذا خرج منه صبّ مثلي ما على الحشفة مرّة واحدة فمن هذا ونظائره يحصل الاطمئنان بأنّ غالب أحكامها إنّما هو للتوسعة ورفع التضييق لكثرة الابتلاء بهما ومعه لا يبقى مجال لإلغاء الخصوصية.
نعم قد يتمسّك بالتعليل الوارد في بعض تلك الأخبار وهو ما رواه الصدوق في العلل عن أبيه عن سعد بن عبدالله، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن يونس بن عبد الرحمن عن رجل عن الغير أو عن الأحول انّه قال لأبي عبدالله(عليه السلام) في حديث: الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به فقال: لا
(الصفحة 231)
بأس، فسكت فقال: أوتدري لِمَ صار لا بأس به؟ قال: قلت: لا والله، فقال: إنّ الماء أكثر من القذر.
وفيه ـ مضافاً إلى جهالة بعض رواته ـ انّ الأخذ بعموم التعليل الظاهر في انّه كلّما كان الماء أكثر من القذر فهو طاهر ممّا لم يقل به أحد حتّى العماني، فإنّ الظاهر انّه يقول بالطهارة في خصوص ما إذا كان الماء الذي هو أكثر من القذر باقياً على حقيقته غير منقلب عنها إلى حقيقة اُخرى، وـ حينئذ ـ يدور الأمر بين رفع اليد عن العموم والأخذ بقول العماني، وبين تخصيصه بمطلق ماء الغسالة، وبين التخصيص بخصوص ماء الاستنجاء والأوّل لا يقول به المستدلّ ولا ترجيح للثاني على الثالث كما هو ظاهر.
ومنها: رواية محمد بن النعمان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قلت له: أستنجي ثمّ يقع ثوبي فيه وأنا جنب؟ فقال: لا بأس به. بتقريب انّ المراد بقوله: «وأنا جنب» هو وجود شيء من المني على الفرج المغسول في حال الاستنجاء فيكون الماء الواقع فيه الثوب غسالة للجنابة أيضاً فحكم الإمام(عليه السلام) بنفي البأس الذي مرجعه إلى طهارة الماء يرجع إلى الحكم بطهارة الغسالة.
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ ظاهر عبارة السؤال انّ الجنابة إنّما هي في حال وقوع الثوب في الماء وهو متأخّر عن الاستنجاء كما يظهر من التعبير بكلمة «ثم» وـ حينئذ ـ يكون مضمون السؤال مشوشاً ولا يجوز الاستناد إليه ـ انّا ولو سلّمنا انّ المراد هو الاستنجاء في حالة الجنابة لكن لا دليل على كونها كناية عن وجود شيء من المني على الفرج إذ لا ملازمة بينها وبينه لإمكان طهارة بدن الجنب، وـ حينئذ ـ فالتقييد به في السؤال لعلّه لأجل انّه يحتمل السائل أن تكون الجنابة موجبة لرفع ما كان معلوماً عنده من طهارة ماء الاستنجاء لاحتمال أن يكون ذلك
(الصفحة 232)
مختصّاً بما إذا لم يكن المستنجى جنباً فتدبّر.
ومنها: مرسلة الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن الماضي(عليه السلام) قال: سُئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال: لا بأس. بتقريب انّ غسالة الحمّام لا تنفك غالباً عن الماء المستعمل في إزالة النجاسة.
وفيه ـ مضافاً إلى الإرسال ـ انّ الظاهر انّ المراد بالناس هو العامة وغرض السائل انّ غسالة العامّة ـ من حيث إنّهم كذلك ـ هل تكون نجسة أم لا فالجواب بنفي البأس لا يرتبط بالمقام بوجه.
ومنها: رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول قال: اغسله في المركن مرّتين فإنّ غسلته في ماء جار فمرّة واحدة. ومثلها الروايات الواردة في كيفية غسل الفراش ونحوه ممّا فيه الحشو إذا أصابه البول ـ وقد جمعها في الوسائل في الباب الخامس من أبواب النجاسات ـ ولكن لا دلالة بل ولا إشعار في شيء منها على طهارة الغسالة مضافاً إلى ما في بعضها من ضعف السند.
وقد يتمسّك أيضاً على طهارة الغسالة ـ تارة ـ بلزوم الحرج والعسر الشديد على تقدير كونها محكومة بالنجاسة وأدلّة نفي الحرج ترفعها، و ـ اُخرى ـ بعدم تعرّض القدماء من الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ لمسألة الغسالة مع كونها من المسائل التي تعمّ بها البلوى، ومن ذلك يستكشف عدم كونها محكومة بالنجاسة وإلاّ لكان اللاّزم التعرّض لها مع شدّة الابتلاء بها كما لا يخفى.
ويرد على الأوّل ـ مضافاً إلى منع الصغرى فإنّه لا يلزم حرج أصلاً كيف والمشهور بين الفقهاء هو القول بالنجاسة على ما عرفت ـ انّه لو سلّمنا لزوم الحرج والعسر فاللاّزم الاقتصار عل يخصوص مورد لزومه فكلّ من كان الاجتناب عن الغسالة حرجياً بالإضافة إليه لا بأس له بترك الاجتناب كما في سائر النجاسات