(الصفحة 81)
واختلاطه بالماء الواقع فيه إنّما يتحقّق تدريجاً بمعنى انّ كلّ ما يخرج منه بالنزح أو غيره يجري من المادّة بمقداره، وـ حينئذ ـ فالماء الخارج من المادّة الموجب لزوال التغيّر وحصول الطهارة طاهر لعدم إمكان أن يكون النجس مطهّراً ـ على ما هو المرتكز عند العرف ـ سواء كان قليلاً أو كثيراً والأوّل هو المتعارف في الآبار وعليه فتدلّ الرواية على اعتصام الماء الجاري وعدم انفعاله مطلقاً ولو كان التعليل راجعاً إلى الذيل.
بل يمكن أن يقال بجواز التعدّي عن مورد الرواية ولو لم يكن فيها تعليل أصلاً لأنّ الخصوصية التي بها يمتاز ماء البئر عن الماء الجاري لا يمكن أن تكون مؤثّرة في الحكم المذكور في الرواية لأنّها ليست إلاّ عبارة عن كون ماء البئر واقعاً في قعر الأرض ومن الظاهر عدم مدخلية هذه الخصوصية في الحكم أصلاً ضرورة انّه لو فرض انّ ماء البئر نبع بحيث صار مساوياً لسطح الأرض ووجهها هل يشكّ أحد في ارتفاع حكمه السابق لخروجه عن عنوان البئرية وهل هو إلاّ كاحتمال دخالة الرجولية في مثل قوله: «رجل شكّ بين الثلاث والأربع» بل المقام أولى كما لا يخفى.
نعم لا محيص عن الاقتصار في مقام التعدّي على خصوص ما كان له مادّة من المياه وامّا الخالي عن المادّة كالكر الراكد فلا يكاد يستفاد حكمه من الصحيحة لا بالإضافة إلى الحكم المذكور في الصدر ولا بالنسبة إلى الحكم المذكور في الذيل ومنه يظهر انّ قول الماتن ـ دام ظلّه ـ : «وما في حكمه» يكون المراد به ما يكون في حكمه من جهة الاشتمال على المادّة كالبئر والنابع الواقف لا ما يكون في حكمه من جهة الاعتصام حتى يشمل الكر، ويؤيّده انّ التعرّض لحكم الكرّ ـ اعتصاماً ونجاسة وزوالها ـ إنّما وقع بعد هذه المسألة فلا يكون فيها تعرّض لحكمه بوجه، نعم جعل الجاري أصلاً والبئر ملحقاً مع أنّه الأصل في الرواية ربّما لا يكون بحسن لكنّه
(الصفحة 82)
ليس بمهمّ بلحاظ الحكم أصلاً.
ثمّ الظاهر رجوع التعليل الواقع في الصحيحة إلى الذيل وهي الطهارة المستفادة من إيجاب النزح إلى غاية حصول الوصفين وقد عرفت انّ المتفاهم العرفي بناء عليه اعتبار الامتزاج وعليه فهل الظاهر من الصحيحة اعتبار الاستهلاك أيضاً أم لا؟
قد يقال: بأنّ المستفاد منها عدم اعتباره لأنّ ارتفاع الناسة قد علّق فيها على زوال التغيّر، ومن المعلوم انّ زوال التغيّر في البئر لا يكون حاصلاً دفعة بل الزوال إنّما يتحقّق بإخراج الماء منه تدريجاً مع الجريان من المادّة بمقداره كذلك، وـ حينئذ ـ فالنجاسة باقية ما دام التغيّر باقياً ، فلو فرض انّ زوال التغيّر يحصل بإخراج ماء قليل مستهلك في البواقي كما يكون الأمر كذلك في الدفعات الأخيرة، فالمطهر ـ حينئذ ـ يكون هو المقدار الخارج من المادّة بالمقدار القليل الخارج من البئر، فلو كان استهلاك الماء المتغيّر شرطاً في حصول الطهارة يلزم الحكم بالنجاسة مطلقاً لأنّ المطهر يكون ـ حينئذ ـ مستهلكاً في البواقي دون العكس فمفاد الرواية بهذه الملاحظة عدم اعتباره.
ولا يخفى انّ هذا مبني على كون المياه الخارجة من المادّة، الممتزجة بالماء المتغيّر نجسة ما دام كون التغيّر باقياً وهو في محلّ المنع لما عرفت سابقاً انّ المعتبر في انفعال الماء الذي له مادّة ـ أعمّ من الجاري وماء البئر ـ أن يكون التغيّر مسبّباً عن ملاقاته لشيء من الأعيان النجسة، ولا تكفي المجاورة ولا حصول أثر النجاسة في الماء بواسطة المتنجّس أو غيره، وفي المقام لا يكون الأمر كذلك لأنّه لا وجه للقول بنجاسة الماء الخارج من المادّة إلاّ ملاقاته مع الماء المتغيّر المتنجّس بواسطة ملاقاة النجس، فالسبب في نجاسته هو المتنجّس، وقد عرفت انّه لا يكون المتنجّس سبباً لنجاسة غيره بالتغيّر، فالمياه الخارجة من المادّة الواقعة في موضع المياه الخارجة
(الصفحة 83)
من البئر لا دليل على كونها نجسة لو لم نقل بقيام الدليل على طهارتها وهو كونها مطهّرة والنجس لا يكون صالحاً لحصول الطهارة به، ودعوى انّ زوال التغيّر بنفسه مطهر كما يستفاد من الصحيحة مدفوعة بأنّ المفروض اعتبار الامتزاج وعدم كفاية زوال التغيّر بأيّ وجه اتّفق كما إذا حصل صدفة أو بالدواء ونحوها، وـ حينئذ ـ فتحتمل دخالة الاستهلاك في حصول الطهارة للماء المتغيّر إذ المطهر على هذا التقدير هو جميع المياه الخارجة من المادّة لا خصوص ما يزول به التغيّر، نعم لو تمّ الإجماع على أنّ الماء الواحد له حكم واحد ـ كما قد يدّعى في أكثر الكلمات ـ لكان القول بعدم اعتبار الاستهلاك مستنداً إلى الوجه المذكور موجّهاً لأنّه ـ حينئذ ـ لا يمكن أن يكون لماء البئر قبل حصول الزوال حكمان فلابدّ امّا أن يكون نجساً كما يدّعيه القائل، وامّا طاهراً ولا مجال له بعد فرض عدم تحقّق الزوال كما هو المفروض، وعليه فالمطهر يكون مستهلكاً في البواقي دون العكس كما عرفت.
(الصفحة 84)
مسألة 11 ـ الراكد بلا مادّة ينجس بملاقاة النجاسة إذا كان دون الكرّ; سواء كان وارداً عليها أو موروداً، ويطهر بالامتزاج بماء معتصم كالجاري والكر وماء المطر، والأقوى عدم الاكتفاء بالاتصال بلا امتزاج1.
1 ـ يقع الكلام في هذه المسألة في مقامات:
المقام الأوّل: في انفعال الماء القليل بمجرّد الملاقاة في الجملة وعدمه بنحو السالبة الكلّية، والشهرة العظيمة بين الأصحاب ـ المتقدّمين والمتأخّرين ـ على الانفعال، بل لم يخالف فيه أحد منهم عدا ابن أبي عقيل ـ على ما استثناه البعض ـ وتبعه على ذلك المحدِّث الكاشاني من المتأخّرين، والأخبار الدالّة على الانفعال كثيرة جدّاً ربّما قيل ببلوغها مائتين بل حكي الشيخ الأنصاري عن بعضهم بلوغها ثلاثمائة وإن نوقش في بلوغها هذا المقدار لكنّه لا مجال للمناقشة في تواترها الإجمالي الذي مرجعه إلى العلم الإجمالي بصدور بعضها مع هذه الكثرة المعجبة وإن كان القول بالانفعال لا يتوقّف على دعوى التواتر أيضاً لوجود روايات صحيحة معتبرة فيها بل يمكن أن يقال بأنّه لا حاجة إلى الرواية أيضاً لأنّ ثبوت العنوانين ـ عنوان الكرّ وعنوان القليل ـ في الفقه وتحقّق الامتياز بينهما لا محالة يكفي في الفرق بينهما من جهة الاعتصام وعدمه وإن كان يمكن أن يقال بأنّ الفرق لعلّه كان من جهة اُخرى غير مرتبطة بالاعتصام والانفعال كالفرق من جهة التطهير بهما إلاّ أنّ الظاهر انّ ذلك الفرق أيضاً متفرّع على الامتياز من الجهة التي هي محلّ البحث، فوجود هذين العنوانين وثبوت الامتياز بينهما قهراً يكفي في إثبات مدّعى المشهور فتدبّر.
والأولى ـ بعد عدم الحاجة إلى نقل روايات الانفعال لكثرتها ووضوح دلالتها ـ نقل طائفة من الروائات التي هي مستند المخالفين ليظهر حالها من حيث الدلالة على مطلوبهم وعدمها ثمّ بيان انّه لو تمّت دلالتها وصحّ سندها فهل الترجيح معها أو مع
(الصفحة 85)
غيرها فنقول:
1 ـ ما رواه محمد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الهيثم بن أبي مسروق، عن الحكيم بن مسكين، عن محمد بن مروان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: لو انّ ميزابين سالا أحدهما ميزاب بول والآخر ميزاب ماء فاختلطا ثمّ أصابك ما كان به بأس.
وفيه ـ مضافاً إلى مجهولية أكثر رواته ـ انّ الظاهر انّ المراد بميزاب الماء هو ميزاب ماء المطر فتخرج الرواية عمّا نحن فيه، ويؤيّده انّه نقل الكليني(قدس سره) مثل هذه الرواية عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله(عليه السلام) مع إضافة الماء إلى المطر.
2 ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن الحسين، عن علي بن حديد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة، قال: إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضّأ وصبها، وإن كان غير متفسِّخ فاشرب منه وتوضّأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية، وكذلك الجرّة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء، قال : وقال أبو جعفر(عليه السلام) : إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شيء تفسخ فيه أو لم يتفسّخ، إلاّ أن يجيء له ريح تغلب على ريح الماء.
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف السند ـ انّ مضمون هذه الرواية لا يكون مفتى به لأحد من الأصحاب لأنّه لم يعهد من أحد منهم التفصيل في مثل ماء الراوية بين صورة التفسّخ وعدمه، وتفسير التفسّخ بالتغيّر الموجب للنجاسة ـ حتى في الكرّ والماء الجاري وأمثالهما ـ ينافيه ذيل الرواية الدالّ على عدم الانفعال إذا كان أك ثر من راوية بلا فرق بين التفسّخ وعدمه، وعلى استثناء صورة التغيّر ومجيء ريح تغلب