(صفحه 201)
إذا عرفت أقسام الإرادة فنقول: إنّ المراد من الإرادة في ما نحن فيه هيالإرادة الواقعيّة والحقيقيّة، وهل للإرادة الجزئيّة الواقعيّة دخل في معنىالإنسان ـ مثلاً ـ بعنوان الجزء أو القيد أم لا؟ قيل: لها دخلٌ. وذكر المحقّقالخراساني قدسسره (1) وبعض آخر وجوهاً لإبطال دليل من يقول بدخلها فيالموضوع له:
أحدها: التبادر، فإنّ سماع كلمة «زيد» من وراء الجدار يوجب انتقالالذهن إلى الهيكل الخارجي، فتكون ذوات المعاني تمام الموضوع له في الأعلامالشخصيّة، وهكذا في أسماء الأجناس.
وثانيها: إيجاد الإشكال في القضايا الحمليّة لو قلنا به، فإنّ الملاك فيهالاتّحاد والهوهويّة، مثل «زيدٌ قائمٌ»، فلو كانت الإرادة جزء معنى «زيد»و«القائم» لكانت إرادة «زيد» غير إرادة «القائم»، فلا يكن بينهما اتّحاد،ولايصحّ الحمل بدون تجريدهما عن الإرادة، وحيث إنّه لا نحتاج إلى التجريدفي تشكيل القضايا نستكشف أنّه لا دخل للإرادة في المعنى الموضوع له.
وثالثها: أنّ لازم ذلك ألاّ يكون في العالم وضع العامّ والموضوع له العامّأصلاً، ويلزم كون وضع عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً؛ لأنّه إذا كانالحيوان الناطق المقيّد بإرادة معنى الإنسان، ومعلوم أنّ الإرادة جزئيّةٌ، فيلزمأن يكون المعنى الموضوع له جزئيّاً.
وأمّا دليل من يقول بدخلها فبيانه يحتاج إلى ذكر مقدّمتين:
الاُولى: أنّ العلّة الغائيّة في الأفعال والحركات الاختياريّة وإن كانتمتأخّرة بوجودها العيني والخارجي عن نفس الأفعال والحركات ولكنّه
- (1) كفاية الاُصول 1: 22 ـ 23.
(صفحه202)
مؤثّرة في تحريك الفاعل بوجودها الذهني، بل هي المهمّ في سلسلة العلل.
الثانية: أنّ المعلول بما أنّه رشحة من رشحات العلّة فلا استقلال له؛ لأنّهعين الربط بعلّته، فهو لا محالة يتضيّق تضيّقاً ذاتيّاً بضيقها، ولا يمكنه أن يكونأوسع منها، فكلّ معلول محدود ومضيّقٌ بالعلّة الغائيّة.
وبالنتيجة: العلّة الغائيّة في باب الوضع عبارة عن السهولة في التفهيموالتفهّم، يعني إظهار المقاصد وبيان ما تتعلّق به الإرادة، فيكون تعلّق الإرادةبالمعاني جزء العلّة الغائيّة، فتضيّق المعلول ـ أي دائرة الوضع ـ بالمعانيالمقصودة، ولذا لو سمعت لفظاً من لافظ بلا شعور لا وضع له؛ إذ لم يكن فيهالقصد والإرادة.
ولكنّ التحقيق: أنّ الوضع بعد عدم تحقّق علقة ذاتيّة بين اللفظ والمعنىعبارة عن جعل علقة اعتباريّة بينهما، وثمرته دلالة اللفظ على المعنى بحيث إنّهإذا سمع سامع اللفظ ينتقل ذهنه إلى المعنى، ودلالة اللفظ على المعنى لا يكونزائداً على دلالة إشارة عمليّة على المشار إليه؛ لأنّ وضع اللفظ لسهولة فهمالمعنى وجعله علامة له، ولا دخل للإرادة فيها أصلاً. هذا أوّلاً.
وثانياً: لو سلّمنا إيجاد التضييق في الوضع من ناحية العلّة الغائيّة، ولكنليس معناه مدخليّة حقيقة الإرادة في الموضوع له شطراً أو شرطاً، بل معناهأنّ مورد تحقّق العلاقة الوضعيّة عبارة عمّا تحقّقت فيه الإرادة، ولولا الإرادة لمتحقّق الوضع.
ونظيره نزاع صاحب المعالم وصاحب القوانين في مسألة استعمال اللفظالمشترك في أكثر من معنى واحد، فقال صاحب المعالم(1): «إنّ كلّ لفظ وضع
(صفحه 203)
للمعنى بقيد الوحدة، بحيث لو استعمل في أكثر من معنى واحد يلزم استعمالاللفظ في غير الموضوع له».
وقال صاحب القوانين(1): «إنّ حين وضع لفظ العين للعين الباكية كانتالعين مقرونة بالوحدة، فلا دخل لها في الموضوع له».
وهكذا في ما نحن فيه، فحين تتحقّق الإرادة يتحقّق الوضع، وأمّا مدخليّتهفي الموضوع له بعنوان الجزء أو الشرط فممنوع، وعليه فالدليل المذكور أعمّمن المدّعى، فإنّ الدليل يضيّق الوضع والمدّعى المدخليّة في الموضوع لهكما لا يخفى.
ولكن حكي عن العلمين الشيخ الرئيس(2) والمحقّق الطوسي(3) من أنّهمقالا: إنّ الدلالة تتبع الإرادة، وتوهّم من ذلك أنّه لو لم تكن الإرادة داخلة فيالموضوع له لما كان لهذا القول وجه.
وأجاب عنه صاحب الكفاية قدسسره (4) وحاصل كلامه: أنّ الدلالة على قسمين:أحدهما: الدلالة التصوّريّة، وهو خطور المعنى في الذهن عند سماع اللفظ، فهيتحتاج إلى شعور السامع والوضع والعلم به، وأمّا من طرف اللافظ فلا حاجةإلى شيء سوى تلفّظه ولو كان بلا شعور. والآخر: الدلالة التصديقيّة وهوتصديق السامع بكون المتكلّم مريداً لهذا المعنى من اللفظ، وهي تحتاج مضافإلى ما ذكر إلى شعور المتكلّم وكونه مريداً له، فلابدّ له من إحراز هذالمعنى منه.
- (1) قوانين الاُصول 1: 63 ـ 64.
- (2) الشفاء، قسم المنطق 1: 42.
- (3) جواهر النضيد في شرح التجريد: 4.
(صفحه204)
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ مراد العلمين من الدلالة التي حكما بتبعيّتهللإرادة الدلالة التصديقيّة، ولا يكون كلامهما ناظراً إلى الدلالة التصوّرية،وكون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، وكلامهما ههنا ليس قابلللإنكار ومسلّم عند الكلّ، ولكنّه خارج عن محلّ النزاع.
ولكن اعترض على صاحب الكفاية عدّة من الأعاظم بأنّه لا وجه لحملالدلالة في كلامهما على الدلالة التصديقيّة، فإنّ تبعيّتها للإرادة في الواقع ونفسالأمر واضحة فلا مجال للكلام فيها أصلاً، فإنّ عبارة العلاّمة ـ في «جواهرالنضيد» التي نقلها عن اُستاذه وشيخه المحقّق الطّوسي ـ صريحة في الدلالةالوضعيّة التصوريّة.
فيكون مراد العلمين من هذا الكلام أنّ العلقة الوضعيّة مختصّة بصورةإرادةالمعنى، وليس مرادهما من ذلك أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له شطرأو شرطاً.
والحاصل من كلامهما: أنّ للإرادة دخلاً في الوضع، وهي توجب التضييقفيه؛ بحيث لو لم تكن الإرادة لم تتحقّق الدلالة الوضعيّة.
ولا يخفى أنّه كان لصاحب المحاضرات(1) كلامٌ في هذا المقام، حيث قال: قدوقع الكلام بين الأعلام في أنّ الدلالة الوضعيّة هل هي الدلالة التصوريّة أوأنّها الدلالة التصديقيّة؟ فالمعروف والمشهور هو الأوّل بتقريب أنّ الانتقال إلىالمعنى عند تصوّر اللفظ لابدّ أن يستند إلى سبب، وذلك السبب عبارة عنالوضع. وذهب جماعة من المحقّقين إلى الثاني ـ أي انحصار الدلالة الوضعيّةبالدلالة التصديقيّة ـ والتحقيق حسب ما يقتضيه النظر الدقيق هو القول الثاني.
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 104 ـ 109.
(صفحه 205)
والوجه فيه على ما سلكناه في باب الوضع من أنّه عبارة عن التعهّدوالالتزام فواضحٌ؛ ضرورة أنّه لا معنى للالتزام بكون اللفظ دالاًّ على معناهولو صدر عن لافظ بلاشعوُر واختيار، بل ولوصدر عناصطكاك حجربآخر،وهكذا، فإنّ هذا غير اختياري، فلا يعقل أن يكون طرفاً للتعهّد والالتزام.
وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العُلقة الوضعيّة بصورة قصد تفهيمالمعنى من اللفظ وإرادته، سواء كانت الإرادة تفهيميّة محضة واستعماليّة أمجدّيّة، فإنّه أمر اختياري، فيكون معلّقاً للالتزام والتعهّد.
وبالجملة، أنّ اختصاص الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة لازم حتميٌللقول بكون الوضع بمعنى التعهّد والالتزام. وأمّا الدّلالة التصورّية ـ وهيالانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ـ فهي غير مستندة إلى الوضع، بل هي منجهة الاُنس الحاصل من كثرة الاستعمال أو من أمر آخر، ومن ثمّة كانت هذهالدلالة موجودة حتّى مع تصريح الواضع باختصاص العُلقة الوضعيّة بمذكرناه، فيكون مراد العلمين من الدلالة الدلالة التصديقيّة الوضعيّة، ولا ربطللدلالة التصوّريّة بباب الوضع أصلاً.
ولكنّ التحقيق: أنّه ـ مع أنّ أصل مبناه مردود عندنا، وانحصار الدلالةالوضعيّة بالدلالة التصديقيّة مخالف للمشهور كما اعترف به ـ مخالف للواقع،فإنّه إن سمّي مولود باسم «عليّ» وقال أحدٌ بعد لحظات: جئني بـ «عليّ»ومعلوم أنّ القول بعدم الانتقال إليه مخالف للوجدان، وأمّا انتقال الذهن إليهفليس مستنداً إلى كثرة الاستعمال، فلا محالة يستند إلى الوضع والتسمية، وإذكان الأمر كذلك فما الدليل على خروج الدلالة التصوريّة عن الدلالة الوضعيّة؟فلابدّ من كونها أيضاً من هذا الباب، وكان كلام العلمين أيضاً ناظراً إلى هذالمعنى.