(الصفحة 89)
بملاحظة الروايات لا يبقى مجال للإشكال في حجّية فتوى المجتهد وجواز الرجوع إليه .
بقي الكلام في هذه المسألة الثانية في الاستدراك الذي ذكره سيّدنا الاُستاذ العلاّمة الماتن ـ دام ظلّه ـ بقوله : «نعم ، ما يكون مصحّحاً للعمل هو صدوره عن حجّة ـ كفتوى الفقيه ـ وإن لم يصدق عليه عنوان التقليد» . والغرض منه دفع ما ربما يمكن أن يتوهّم من أ نّه لا يكاد يمكن الجمع بين أمرين : أحدهما : تفسير التقليد وتعريفه بنفس العمل . غاية الأمر مع الاستناد إلى فتوى الفقيه ، والآخر : ما هو المعروف من أنّ المصحّح لعمل العامّي غير المحتاط هو التقليد ، فإذا كان التقليد هو نفس العمل فكيف يكون المصحّح للعمل أيضاً هو نفسه ؟ ضرورة أنّ المصحّح لابدّ وأن يكون مغايراً لنفس العمل ، كما هو ظاهر . وقد عرفت سابقاً(1) أنّ الوجه في العدول عن تفسير التقليد بالعمل ما اشتهر بينهم من لزوم مسبوقيّة العمل بالتقليد ; لأ نّه يكون مصحّحاً له وموجباً لاتّصافه بعدم البطلان .
والجواب عن هذا التوهّم ما أشار إليه الماتن ـ دام ظلّه ـ من أ نّه لم يقم دليل على اعتبار عنوان التقليد في صحّة العمل وكونه مصحّحاً له حتى ينافي ذلك مع تفسيره بنفس العمل ، بل المصحّح للعمل هو صدوره عن حجّة وإستناده إليها وإن لم يكن هذا الاستناد منطبقاً عليه عنوان التقليد ، فكما أنّ المصحّح لعمل المجتهد هو صدوره عن حجّة ، كخبر الواحد وغيره من الأمارات المعتبرة ، فكذلك المصحّح لعمل العامّي هو صدوره عن حجّة واستناده إليها ، كفتوى الفقيه ، فمسبوقيّة العمل
بالفتوى واستناده إليها هو الملاك ; لاتّصافه بالصحّة والخروج عن البطلان وإن
(الصفحة 90)
لم يكن التقليد عبارة عن الاستناد ، بل هو العمل مستنداً إلى الحجّة .
فالجمع بين الأمرين ممّا لا مانع منه ; لعدم ثبوت المنافاة بوجه ، فيمكن تفسير التقليد بنفس العمل والحكم بكون المصحّح له أمراً مغايراً له ، وهو الاستناد وكون
صدوره ناشئاً عن الحجّة مسبوقاً بها ، ففي الحقيقة يرجع هذا الكلام إلى ما ذكرنا سابقاً(1) من أ نّه لم يقم دليل على لزوم مسبوقيّة العمل بالتقليد ، وأ نّه يعتبر تحقّق هذا العنوان قبل العمل ، بل كما أفاده الماتن ـ دام ظلّه ـ وسيأتي في بعض المسائل الآتية ـ إن شاء الله تعالى ـ لا دليل على اعتبار الاستناد أيضاً في اتّصاف العمل بالصحّة ، بل مجرّد الانطباق ومطابقة العمل لفتوى المجتهد كاف في الحكم بالصحّة ، وسيأتي توضيحه(2) فانتظر .
- (1) في ص63 .
-
(2) في ص262 ـ 269 مسألة20 .
(الصفحة 91)[شرائط مرجع التقليد]
مسألة3: يجب أن يكون المرجع للتقليد عالماً مجتهداً عادلا ورعاً في دين الله، بل غير مكبّ على الدنيا، ولا حريصاً عليها وعلى تحصيلها جاهاً ومالا على الأحوط. وفي الحديث: من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقّلدوه 1
1 ـ أقول : كما أنّ البحث في أصل مسألة التقليد ورجوع العامّي إلى المجتهد تارة :يقع فيما هو المستند للعامّي والمحرّك له على الرجوع ، وأُخرى : فيما يستنبطه المجتهد من الأدلّة ، كذلك البحث في شرائط المجتهد الذي يجب الرجوع إليه لأخذ الفتوى والعمل على طبقها ، تارة : يقع فيما يحكم به عقل العامي الذي لا مستند له إلاّهو ولا محرّك له إلاّ إدراكه ، وأُخرى : فيما يستفاد من الأدلّة الواردة في هذا الباب وما يستنبطه المجتهد منها .
أمّا من الجهة الأُولى : فقد عرفت أ نّه لا يمكن أن يجري التقليد في أصل مسألة التقليد وجوازه(1) . وكذا في شؤونه وشرائطه ; للزوم الدور أو التسلسل ، فلابدّ أن يرجع العامي إلى عقله ويتبع ما يقتضيه إدراكه من أصل التقليد وفروعه ، فإذا رجع إلى من يكون جامعاً للشرائط المعتبرة أو المحتملة عنده يكون اللازم حينئذ تطبيق العمل على فتواه ونظره ، ورعاية رأيه في الخصوصيّات المعتبرة في المرجعيّة للفتوى ، كما هو ظاهر .
وأمّا من الجهة الثانية : فنقول : قد اشترطوا في المقلَّد الذي يرجع إليه في التقليد
(الصفحة 92)
أُموراً متعدّدة :
الأوّل : البلوغ ، من الواضح الذي لا ينبغي الارتياب فيه أنّ أدلّة حجّيّة فتوى المجتهد وجواز تقليده لا دلالة فيها على اعتبار البلوغ أصلا ; فإنّ مقتضى الأدلّة اللفظيّة من الآيات والروايات ـ على تقدير تماميّة دلالتها على حجّية الفتوى كما عرفت المناقشة في بعضها(1) ـ هو كون الموضوع عنوان الفقيه ، وأهل الذكر ، والعارف والناظر في الحلال والحرام ، وأشباهها من العناوين التي لا ريب في صدقها على الصبي إذا اتّصف بالاجتهاد .
والسيرة العقلائيّة التي هي العمدة في باب التقليد وشؤونه لا فرق فيها بين البالغ وغيره ، فإنّ الملاك فيها هو رجوع الجاهل إلى العالم ، ولا فرق في هذا الملاك بينهما ، خصوصاً مع وجود ما هو أولى من المقام بمراتب في الشرع ; فإنّه كان من الأنبياء والأوصياء ـ صلوات الله عليهم ـ من بلغ مرتبة النبوّة والإمامة قبل أن يصير بالغاً . وعليه : فيرتفع الاستبعاد الذي ربما يمكن أن يتّكل عليه في المقام ، وإن كان في هذه المقايسة نظر ، كما هو غير خفيّ على أهل النظر .
وبالجملة : أدلّة جواز التقليد خالية عن اعتبار البلوغ ، كما أنّ ما ورد من أ نّه رفع القلم عن الصبيّ حتى يحتلم(2) لا دلالة له على اعتبار البلوغ في مثل المقام ; فإنّ رفع قلم المؤاخذة أو أصل التكليف لا يلازم خروجه عن صلاحيّة التقليد الذي هو عمل الغير ووظيفته . وأمّا ما ورد من أنّ عمد الصبي وخطأه واحد ، فإن كان مذيّلا بما في ذيل إحدى روايتيه من قوله : تحمله العاقلة ، أو يحمل على العاقلة(3) .
- (1) في ص71 ـ 89 .
-
(2) الخصال : 93 ح40 و175 ح233 ، وعنه وسائل الشيعة : 1 / 45 ، أبواب مقدّمة العبادات ب4 ح11 .
-
(3) تهذيب الأحكام: 10/233 ح921، وعنه وسائل الشيعة: 29/400، كتاب الديات، أبواب العاقلة ب11 ح3.
(الصفحة 93)
فالظاهر عدم دلالته إلاّ على كون عمده في باب القتل والجناية خطأً ، وتكون الدية
ثابتة على العاقلة محمولة عليها . وأمّا لو كان خالياً عن الذيل كما في إحدى الروايتين(1) فلا يبعد أن يقال بدلالته على المقام ونحوه ; فإنّ مقتضى إطلاق كون عمده خطأً أنّ الأفعال والأقوال والاستنباطات التي تصدر من الصبيّ مع التوجّه والالتفات تكون كالتي تصدر من غيره بدون التوجّه والقصد والإرادة .
ومن الواضح أنّ الاستنباط الذي هو فعل من الأفعال إذا صدر من غير توجّه ونظر لا يكون معتبراً بوجه ، ولا يجوز للعامّي أن يستند إليه أصلا . كما أ نّه على تقدير اشتمال الرواية على الذيل يمكن أن يقال بأنّ الذيل بيان لمصداق من الكبرى الكلّيّة ، والقاعدة العامّة التي اُفيدت في الصدر ، لا أ نّه قرينة على اختصاصه بخصوص باب القتل والجناية ، والتحقيق موكول إلى محلّه .
وكيف كان ، فالدليل على اعتبار البلوغ الإجماع الذي ادّعي في خصوص المقام(2) ، والإجماع بل الضرورة التي ادّعاها صاحب الجواهر(قدس سره) على أنّ الصبي مسلوب العبارة(3) ، فإذا كانت عبارته مسلوبة فاستنباطه ونظره بطريق أولى ، مضافاً إلى ذكر «الرجل» في حسنة أبي خديجة(4) ـ بناءً على دلالتها على حجّيّة الفتوى ، وكون المراد بـ«الرجل» ما يقابل الصبيّ أيضاً ـ وإلى أنّ اعتبار العدالة كما سيجيء يلازم اعتبار البلوغ أيضاً .
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ محلّ الكلام هو اعتبار البلوغ في زمان العمل بفتواه وأخذها منه
- (1) تهذيب الأحكام: 10/233 ح920، وعنه وسائل الشيعة: 29/400، كتاب الديات، أبواب العاقلة ب11 ح2.
-
(2) الروضة البهيّة: 3/62، مسالك الأفهام: 13/326 ـ 327، مفتاح الكرامة: 10/9، مستند الشيعة: 17/33، رياض المسائل: 9/336
-
(3) جواهر الكلام : 29 / 143 .
-
(4) تأتي في ص111.