(صفحه 167)
ومعلُومٌ أنّ بين «زيد» وكائنٌ في الدار اتّحاد وهوهويّة، ولذا عبّروا عن هذهالقضايا بالقضايا المأوّلة، بمعنى أنّ المحمول فيها ليس قابلاً للحمل بدونالتأويل.في الإنشاء والإخبار
هذا، والملاك في القضايا السالبة عبارة عن نفي الاتّحاد والهوهويّة، ولكنليس المراد من سلب الاتّحاد سلبه عن جميع المراحل ـ أي مرحلة المفهوموالماهيّة والوجود ـ بل لابدّ فيه من مراعاة نوع الاتّحاد المقصود في القضيّةالموجبة، فإذا قيل: «زيدٌ قائمٌ» في الموجبة و«زيدٌ ليس بقائمٍ» في السالبة يعلمأنّ المراد من الاتّحاد وسلبه فيهما يكون في عالم الوجود فقط، كما أنّه إذا قيل فيالموجبة: «الإنسان حيوان ناطق» وفي السالبة: «الإنسان ليس بحيوان ناهق»نستكشف أنّ المراد من الاتّحاد وسلبه فيهما يكون في مرحلة الماهيّة فقط،فيظهر منه أنّه إذا قيل بلحاظ الاتّحاد في المفهوم: «الإنسان ليس بحيوان ناطق»كانت هذه قضيّة صحيحة، كما أنّه إذا قيل بلحاظ الاتّحاد في المفهوم «الإنسانحيوان ناطق» كانت هذه قضيّة كاذبة. هذا تمام الكلام في باب القضايا.
الإنشاء والإخبار
قال المحقّق الخراساني قدسسره (1) ـ بعد ما اختار أنّ المعنى الحرفي والاسميمتّحدان بالذات من حيث الوضع والموضوع له والمستعمل فيه، ومختلفان منحيث اللحاظ الآلي والاستقلالي في مقام الاستعمال ـ : ثمّ لا يبعد أن يكونالاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل فيحكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء يستعمل في قصد تحقّقه وثبوته وإن
(صفحه168)
اتّفقا فيما استعملا فيه، بمعنى أنّهما أيضاً متّحدان من حيث الوضع والموضوع لهوالمستعمل فيه، ومختلفان في الداعي، فإنّه في الإنشاء قصد إيجاد المعنى، وفيالخبر قصد الحكاية عنه وإن كان في كلامه نوع من المسامحة، وظاهره يدلّعلى خلاف مقصوده.
توضيح ذلك يتوقّف على مقدّمة، وهي: أنّ الجملات التي يستعملها المتكلّمفي مقام الإفادة على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يستعمل في مقام الإخبار فقط،مثل جملة «زيدٌ قائمٌ» فإنّها جملة خبريّة محضة، واستعمالها في مقام الإنشاءباطلٌ قطعاً.
وثانيها: ما يستعمل في مقام الإنشاء فقط، ولا يتحقّق بها إلاّ الإنشاء، مثلصيغة «افعل» وهي أمرٌ إنشائيٌ، سواء استعمل في مقام الأمر الوجوبي أوالاستحبابي أو في مقام توهّم الحذر؛ إذ الجواز أيضاً أمرٌ إنشائيٌّ.
وثالثها: ما قد يستعمل في مقام الإنشاء، وقد يستعمل في مقام الإخبار،مثل جملة «بعت داري» ونحوها.
ولا يخفى أنّ المراد من الاختلاف في الخبر والإنشاء في كلامه قدسسره هو القسمالثالث منها، وقال: إنّ لجملة «بعت كذا» معنى واحداً، لا دخل للإنشاءوالإخبار في حقيقته، ولكن إن استعملت في مقام إنشاء البيع تجد عنوانالإنشائيّة، وإن استعملت في مقام الإخبار عمّا سبق تجد عنوان الخبريّة، وليسلها معنيان مختلفان في الحقيقة.
ولكن يرد عليه: بأنّه قدسسره استفاد من الأدلّة الامتناع والاستحالة في بحثالحروف؛ إذ الخصوصيّة التي قال بها الجمهور في الموضوع له الحروف لا محلّلها خارجاً ولا ذهناً، ثمّ اختار المبنى المذكور، وأمّا في بحث الخبر والإنشاء
(صفحه 169)
فتمسّك بكلمة «لا يبعد»، ومعناه إمكان الفرق في جملة «بعت كذا» بين ما إذاستعملت في مقام الإخبار، وبين ما إذا استعملت في مقام الإنشاء، مع أنّه لخصوصيّة ههنا حتّى يوجب التمسّك.
والتحقيق في المسألة: أنّه كما قلنا في بحث الحروف: إنّ المعاني الحرفيّةوالاسميّة متباينتان بتمام الذات والحقيقة، وأنّ لفظ الابتداء يحكى عن المفهوموعنوان الابتداء، وحرف «من» يحكي عن المعنونات والواقعيّات الخارجيّة،وكذلك في هذه المسألة لا مانع من أن يكون لجملة «بعت كذا» معنيانمتضادّان بالحقيقة من حيث الموضوع له والمستعمل فيه: أحدهما عبارة عنالحكاية عن تحقّق البيع، والآخر عن إنشاء البيع، والعرف أيضاً يساعد هذالمعنى، إنّما الإشكال في أنّ لكلمة «بعت» مادّة وهيئة، ولكلّ منهما معنى علىحدة؛ لأنّ مادّتها عبارة عن البيع، وهو في اللغة مبادلة مال بمال، وهيئتهعبارة عن الفعل الماضي لمتكلّم وحده، ومعناه خبر محض وصرف الإخبارعن السابق، وليس لمجموع الهيئة والمادّة وضعاً ثالثاً، ولا نعلم أنّ المعنيينالمذكورين مدلولان للهيئة أو للمادّة، إن كانا مدلولين للهيئة فلِمَ لا يكون فيأمثال هذه الهيئة؟ وإن كانا مدلولين للمادّة فلِمَ لا يكون في أمثال هذه المادّة؟
وهذا الإشكال يهدينا إلى الانصراف عمّا قلناه من أنّ لكلمة «بعت»معنيين متضادّين، ويوجب القول بأنّ الإنشائيّة اُخذت في حقيقة المادّة معقطع النظر عن الهيئة، ولا شكّ في أنّ المراد من المبادلة في المعنى اللغوي هيالمبادلة الإنشائيّة لا المبادلة المكانيّة، والإنشائيّة لا تنفكّ عن المادّة أصلاً، وأمّاستعمال كلمة «بعت» في مقام الإنشاء والإخبار، مع أنّ عنوان الإنشائيّةمحفوظ في نفس المادّة، فيكون وضع الواضع الهيئة كذلك، مثل كلمة «يضرب»
(صفحه170)
الذي وضعه الواضع للدلالة على الحال والاستقبال.
فإذا استعملت هذه الجملة في مقام الإنشاء يكون معناها: صار الإنشاءمتحقّقاً في الحال، وإذا استعملت في مقام الإخبار يكون معناها: صار الإنشاءمتحقّقاً فيما مضى، والفرق بينهما لا يكون إلاّ من حيث الزمان فقط، وعنوانالإنشاء في كليهما محفوظٌ، والهيئة قد توجد الإنشاء في الحال وقد تحكي عمّمضى، وهذه الحكاية لا تكون إلاّ لوضعها من ناحية الواضع كذلك، وهكذا فيسائر الجمل المشتركة بين الإخبار والإنشاء.
وربّما يشكل بأنّه سلّمنا هذا المعنى في كلمة «بعت» و«أنكحت» وسائرالجمل التي قد تستعمل في مقام الإنشاء، وقد تستعمل في مقام الإخبار،واُخذت في مادّتها عنوان الإنشائيّة، ولكنّا نرى كثيراً مّا استعمال الجملالخبريّة، مثل: «يعيد صلاته» و«يغسل ثوبه» مكان «ليعد صلاته» و«ليغسلثوبه»، مع أنّه لا يؤخذ في مادّتها عنوان الإنشائيّة، كما لا يخفى.
وجوابه: أنّ استعمال كلمة: «بعتُ» و«أنكحتُ» في مقام الإنشاء والإخباراستعمال حقيقي يحتاج إلى الوضع، وأمّا استعمال الجمل المذكورة في المعنىالإنشائي فاستعمال مجازي وكنائي، ولا نحتاج فيه إلى وضع خاصّ، ولا يخفىأنّ كلامنا في الاستعمال الحقيقي لا المجازي.في حقيقة الإنشاء والإخبار
حقيقة الإنشاء والإخبار
واعلم أنّ الإنشاء والإخبار وصفان للجملة، والمفرد لا يتّصف بهذينالعنوانين، والمقسم لهما جملة يصحّ السكوت عليها. وأمّا حقيقة الإخبار فلإبهام فيها، بل أوضحٌ من أن يبيّن؛ لأنّه يحكي عن الواقع في الزمان الماضي أوالحال أو الاستقبال، أو نفي الواقع كذلك، وأمّا حقيقة الإنشاء فتحتاج إلى
(صفحه 171)
البحث والتأمّل، والبحث فيها يكون في مرحلتين:
الاُولى: في أنّ للفظ تأثيراً في حقيقة الإنشاء أم لا؟ قال بعض الأعلامـ على ما في كتاب المحاضرات(1) ـ : إنّ الجملة الإنشائيّة موضوعة لإبراز أمرنفساني، فكلّ متكلّم متعهّدٌ بأنّه متى ما قصد إبراز ذلك يتكلّم بالجملةالإنشائيّة، مثلاً: إذا قصد إبراز اعتبار الملكيّة يتكلّم بصيغة «بعت» أو«ملكتُ»، وإذا قصد إبراز اعتبار الزوجيّة يبرزه بقوله: «زوّجت»و«أنكحت»، وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادّة على عهدة المخاطب يتكلّمبصيغة «افعل» ونحوها، وهكذا، فالإنشاء يتحقّق بالاعتبار النفساني، سواءكان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن؟ نعم، اللفظ مبرزٌ له في الخارج.
ثمّ يدفع الإشكال بقوله: أمّا الاعتبارات الشرعيّة أو العقلائيّة فهي وإنكانت مترتّبة على الجمل الإنشائيّة، إلاّ أنّ ذلك الترتّب إنّما هو فيما إذا قصدالمنشئ معاني هذه الجمل بها لا مطلقاً، والمفروض في المقام أنّ الكلام فيتحقيق معانيها وفيما تترتّب عليه تلك الاعتبارات.
وبتعبير آخر: أنّ الجمل الإنشائيّة وإن كانت ممّا يتوقّف عليها فعليّة تلكالاعتبارات وتحقّقها خارجاً، ولكن لا بما أنّها ألفاظ مخصوصة، بل من جهةأنّها استعملت في معانيها.
على أنّه ليس في كلّ مورد من موارد الإنشاء اعتبار من العقلاء أو منالشرع؛ لأنّ في مورد إنشاء التمنّي والترجّي والاستفهام ونحوها ليس أيّاعتبار من الاعتبارات حتّى يتوصّل بها إلى ترتّبه في الخارج.
ثمّ استدلّ لذلك المعنى بقوله: إنّ الجملة الإنشائيّة لم توضع لإيجاد المعنى في
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 88 .