(الصفحة 156)
باب أنّ تحلّي تلك الثلّة بكلّ هذه الكمالات لا يصحّ أن يخلو من حكمة وعلّة ترتبط بالإسلام ومسيرته ومستقبله ، ودون أن تنعكس هذه الهبات والعطايا الإلهية الجزيلة لـ
«أهل البيت»(عليهم السلام) على عموم المسلمين وعلى المجتمع الإسلامي ككلّ ، فكان ممّا استفدناه أنّ مسألة الإمامة والقيادة أحد معطيات هذه الآية الكريمة .
ولكن هل يفترض في عائلة كاملة طهّرت ومُلئت علماً وفضيلةً في سبيل خدمة الدين وحفظ الإسلام ، أن يكون جميع أفراد هذه الاُسرة زعماء وقادة ، أم أنّ الفرض الصحيح في هكذا حالة أن تكون الاُسرة ككلّ مشتركة في حفظ الدين ومصير الإسلام ، مع انفراد كلّ عضو بواجب مستقلّ يتناسب ويُلائم وضعه وحاله؟
إذن علينا أن نتبيّن الدور والمسؤولية الملقاة على عاتق كلّ من هؤلاء الخمسة(عليهم السلام) .
إذا كان البارئ تعالى يريد لكلّ فرد من هذه الاُسرة العظيمة المكوّنة من زوجين وابنين ـ أمّا النبيّ(صلى الله عليه وآله) فقد كان يقضي الأيّام الأخيرة لعهده وزعامته ، إذ نزلت آية التطهير في أواخر حياته الشريفة(صلى الله عليه وآله) ـ دوراً معيّناً وألقى على عاتقهم مسؤولية خاصّة لحفظ الدين ، ووهبهم تلك الصفات والخصائص في سبيل تنفيذها وتمكينهم من حسن أدائها ، فإنّ دور الأب والابنين تحدّد واتّضح: القيادة والإمامة ، كلّ في عصره وزمانه ، وقد ذكروا هذا الأمر وأشاروا إليه بأنفسهم في أحاديثهم استدلالاً بالآية الشريفة ، وبقيت مهمّة هذه المرأة العظيمة والدور الملقى على عاتقها .
إنّ دور الزهراء(عليها السلام) قد أفرزته وصنّفته الآية الكريمة أيضاً ، فتوزيع
(الصفحة 157)
الأدوار وتقسيم المسؤوليات الذي يجعل من الزوج والأبناء أئمّة وقادة للدين يفرض على الزوجة والاُمّ دوراً متناسباً مع هذا الوضع ، فالأسرة التي يجب أن يكون ربّها زعيماً والأولاد كذلك كلّ في عهده ، يجب أن تتّحدّد مسؤولية سيّدة تلك الاُسرة وربّة ذلك البيت ـ التي تتمتّع بنفس الفضائل والكمالات ـ بإعداد أبنائها للدور المنتظر ، والوقوف خلف الزوج والتعاون معه وتوفير الأجواء الروحية والنفسية التي يتطلّبها النهوض بذلك الدور .
فاطمة هي اُمّ أئمّة الهدى الذين هم الآيات الربانية العظمى التي تتحلّى بأعلى الكمالات البشرية وتتمتّع بقمّة المعنويات الإلهية ، والمفترض أن يحافظوا على هذه المراتب إلى الأبد ، فلابدّ من درع واقية تحافظ عليهم وتشكّل الحماية الطبيعية لهم ، فكانت اُمّهم الزهراء صلوات الله عليها .
فاطمة(عليها السلام) هي زوج عليّ(عليه السلام) ، زعيم الإسلام وإمام المسلمين الأوّل ، ولابدّ من سنخيّة وتقارب في الرتبة المعنوية والروحية بين الزوجين; لتكون الاسرة ناجحة وتتمكّن من العيش السليم وأداء الدور الربّاني والمسؤولية الرسالية على أكمل وجه ، من هنا كانت الطهارة والعصمة وما خلع الله على الزهراء(عليها السلام) من كمال ، ضرورة طبيعية لنصرة الدين وتحقيق أهداف الخلافة الإلهية الممتدّة في ذراريها(1) .
- (1) من الواضح أن الكاتب ليس في معرض بيان مقامات أهل البيت(عليهم السلام) والبحث في مراتبهم ، وأنّه يتناول الأمر على طريقة الاُصوليين في القول بحجّية أقوال المعصومين(عليهم السلام) ، وقد دخله مدخل الكلاميين في ضرورة العصمة للحجّة ، وعموماً ،
(الصفحة 158)
فهو يسعى لطرح يوفر معالجة عقلية للقضية ، أمّا ما يتعلّق بمقامات هذه الأنوار وحقيقة مراتبهم فتجدها في روايات «أهل البيت»(عليهم السلام) التي تخلو من إشارة للتعليل المذكور هنا ، أو تعليق حصول الزهراء(عليها السلام) ، وهكذا بقيّة الأئمّة(عليهم السلام)على المقامات المعنوية لرسالة سينهضون بها ، أو دور سيُناط بهم ، بل هي من متعلّقات ذواتهم وضرورات وجودهم .
وللتبرّك بكلامهم وللمزيد من النورانية في معرفتهم نذكر بعض الأحاديث الشريفة ، من ذلك ما روي مرفوعاً إلى سلمان الفارسي ، قال: كنت جالساً عند النبيّ(صلى الله عليه وآله)في المسجد ، إذ دخل العبّاس بن عبد المطّلب فسلّم فردّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)السلام ورحّب به ، فقال: يارسول الله بِمَ فضّل الله علينا عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)والمعادن واحدة؟
فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): إذن اُخبرك ياعمّ: إنّ الله خلقني وخلق عليّاً ولا سماء ولا أرض ، ولا جنّة ولا نار ، ولا لوح ولا قلم ، فلمّا أراد الله عزّوجلّ بدو خلقنا تكلّم بكلمة فكانت نوراً ، ثمّ تكلّم بكلمة ثانية فكانت روحاً ، فمزج فيما بينهما واعتدلا فخلقني وعليّاً منهما ، ثم فتق من نوري نورَ العرش ، فأنا أجلّ من العرش ، ثم فتق من نور علي(عليه السلام) نورَ السماوات ، فعليّ أجلّ من السماوات ، ثم فتق من نور الحسن(عليه السلام) نورَ الشمس ومن نور الحسين(عليه السلام)نورَ القمر ، فهما أجلّ من الشمس والقمر ، وكانت الملائكة تسبِّح الله تعالى وتقدّسه وتقول في تسبيحها: سبّوحٌ قدّوس من أنوار ما أكرمها على الله تعالى .
فلمّا أراد الله أن يبلو الملائكة أرسل عليهم سحاباً من ظلمة ، وكانت الملائكة لا تنظر أوّلها من آخرها ولا آخرها من أوّلها ، فقالت الملائكة: إلهنا وسيّدنا منذ خلقتنا ما رأينا مثل ما نحن فيه ، فنسألك بحقّ هذه الأنوار إلاّ ما كشفت عنّا .
فقال الله عزّوجلّ: وعزّتي وجلالي لأفعلنّ ، فخلق نور فاطمة(عليها السلام) يومئذ كالقنديل ، وعلّقه في قرط العرش ، فزهرت السماوات السبع والأرضون السبع ، من أجل ذلك سُمّيت فاطمة الزهراء . وكانت الملائكة تسبِّح الله وتقدّسه ، فقال الله عزّوجلّ: وعزّتي وجلالي لأجعلنّ ثواب تسبيحكم وتقديسكم إلى يوم القيامة لمحبّي هذه المرأة وأبيها وبعلها وبنيها .
(الصفحة 159)
قال سلمان: فخرج العبّاس فلقيه عليّ(عليه السلام) ، فضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، وقال: بأبي عترة المصطفى من أهل بيت ما أكرمكم على الله تعالى . (إرشاد القلوب للديلمي 2: 403 ، البحار للمجلسي 43: 17 ح16) .
وعن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: لمّا خلق الله تعالى آدم أبو البشر ونفخ فيه من روحه التفت آدم إلى يمنة العرش ، فإذا في النور خمسة أشباح سجّداً وركّعاً ، قال آدم: ياربّ هل خلقت أحداً من طين قبلي؟ قال: لا يا آدم ، قال: فمَنْ هؤلاء الخمسة الأشباح الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ما خلقتك ، هؤلاء خمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائي ، لولاهم ما خلقت الجنّة ولا النار ولا العرش ولا الكرسي ولا السماء ولا الأرض ، ولا الملائكة ولا الإنس ولا الجنّ ، فأنا المحمود وهذا محمّد ، وأنا العالي وهذا عليّ ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا الإحسان وهذا الحسن ، وأنا المحسن وهذا الحسين ، آليت بعزّتي أنّه لا يأتيني أحد بمثقال ذرّة من خردل من بغض أحدهم إلاّ أدخلته ناري ولا اُبالي . يا آدم ، هؤلاء صفوتي من خلقي ، بهم اُنجيهم وبهم أهلكهم ، فإذا كان لك إليّ حاجة فبهؤلاء توسّل .
فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): نحن سفينة النجاة ، من تعلّق بها نجا ومن حادَ عنها هلك ، فمن كان له إلى الله حاجة فليسأل بنا أهل البيت . (فرائد السمطين 1: 36 ، فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى; الرحماني الهمداني: 39) .
وهذا قول للإمام الخميني قدّس الله نفسه الزكية ، أورده بمناسبة ميلاد الزهراء(عليها السلام)يذكر فيه: «لم تكن الزهراء امرأة عادية ، بل كانت امرأة روحانية ، امرأة ملكوتية ، إنساناً بكلّ ما للإنسان من معنى ، إنّها موجود ملكوتي ظهر في عالمنا على صورة إنسان ، بل موجود إلهي جبروتي ظهر بصورة امرأة ، لقد تجسّدت كلّ الهويات الكمالية التي يمكن تصوّرها في الإنسان في هذه المرأة .
غداً تحلّ ذكرى ميلاد امرأة تحوي جميع خصائص الأنبياء وخصوصيّاتهم ، امرأة لو كانت رجلاً لكانت نبيّاً ، ولكانت في مقام رسول الله(صلى الله عليه وآله)!
إنّها تحمل وتجمع جميع المعنويات والتجلّيات الملكوتية والإلهية
(الصفحة 160)
إنّ الإرادة الربّانية في طهارة الأئمّة(عليهم السلام) لابدّ لها من أسباب ، وإحدى أهمّ أسباب تفوّق الإنسان هو طيب مولده وطهارة الحجر الذي ينشأ فيه . أراد الله لهم(عليهم السلام) الطهارة ، ولكنّه أراد أيضاً أن يكون منطلقهم في هذا الطريق هو حجر الاُمّ الطاهرة ، فطهّرها وعصمها .
من هذا البيان ندرك مكانة الاُمّ ، ونرى كيف أنّ وجود الاُمّ مؤثّر حتّى في أولئك الذين يريد الله لهم الطهارة والعصمة ، فكان حتماً أن ينشأوا في الأرحام الطاهرة والحجور المطهّرة ، وأن يحظوا برعاية واُمومة قمّة في الشرف والعفّة والعلم والمعرفة ، وأن يطووا مراحل الرقي
والجبروتية والملكية والناسوتية ، إنّ هذه النشئة والخلقة الصورية الطبيعية هي أدنى مراتب الإنسان ، الرجل والمرأة ، ولكن الحركة نحو الكمال تبدأ من هذه المرتبة النازلة ، فالإنسان موجود متحرّك من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغيب ، ومنها إلى الفناء في الألوهية ، هذه المعاني كانت متحقّقة في الصدِّيقة الطاهرة ، انطلقت من مرتبة الطبيعة وبلغت مرتبة قصر وعجز عنها الجميع» (صحيفة النور 6 : 185) .
ومن ذلك ما ذكره العلاّمة المقرّم في عصمة الزهراء(عليها السلام) : «ولو أعرضنا عن البرهنة العلمية فإنّا لا ننسى مهما ننسى شيئاً ، أنّها صلوات الله عليها مشتقّة من نور النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، المنتجب من الشعاع الإلهي ، فهي شظيّة من الحقيقة المحمّديّة ، المصوغة من عنصر القداسة ، فمن المستحيل ـ والحالة هذه ـ أن يتطرّق الإثم إلى أفعالها ، أو أن توصم بشيء من شية العار ، فلا يهولنّك ما يقرع سمعك من الطنين أخذاً من الميول والأهواء المردية ، بأنّ العصمة الثابتة لمن شاركها في الكساء لأجل تحمّلهم الحجّية من رسالة أو إمامة ، وقد تخلّت الحوراء عنهما ، فلا تجب عصمتها ، فإنّا لم نقل بتحقّق العصمة فيهم(عليهم السلام) لأجل تبليغ الأحكام ، وإنّما تمسّكنا لعصمتهم بعد نصّ الكتاب العزيز باقتضاء الطبيعة المتكوّنة من النور الإلهي المستحيل فيمن اشتق منه مقارفة إثم ، أو تلوّث بما لا يلائم ذلك النور الأرفع حتّى في مثل ترك الأولى» (وفاة الصدّيقة الزهراء(عليها السلام): 54) .