(الصفحة 79)
الإلهية التي وضعها القرآن الكريم لاُسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعائلته ، ذلك البرنامج الذي سيعمّ الإسلام البلاد عند تطبيقه ، وهذه الخطّة التي سيحتلّ الإسلام على إثر العمل بها مكانته بين الاُمم كمشعل هداية للبشرية جمعاء . هذه الخطّة التي سبق أن أشرنا إليها ، نقف بعد المزيد من التدقيق والتحقيق على تفاصيلها .
تُصوّر لنا هذه الآيات شكل أسرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وهي في نطاقها العائلي الكبير تُدخل جميع دُور رسول الله ومن فيها من نسائه في عضويتها ، وهكذا ذريّته وأقرباؤه من ابنته وسبطيه إضافة إلى صهره العظيم(عليهم السلام) . ولكن هذه الاُسرة الكبيرة تنقسم في الآيات إلى قسمين وتنشقّ إلى فريقين:
فريق باسم نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ولكن لم تذكر بيوتهنّ باسم بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، بل بنفس البيت الذي يسكنّ فيه فاُطلق
{بُيُوتِكُنَّ} .
والفريق الثاني اُطلق عليه وسمّي بـ
{أَهْلَ الْبَيْتِ} وقلنا: إنّ أعضاء هذا الفريق خمسة مع صاحب البيت ، رئيسهم النبيّ(صلى الله عليه وآله) .
وبينما نرى أنّ الآيات قد وضعت خطّة وبرنامج عمل من أجل السعادة والنجاة للفريق الأوّل ، نجدها ميّزت الفريق الثاني وخصّته بخصوصية انفرد بها .
البرنامج القرآني للفريق الأوّل
1 ـ عدم التعلّق بالدنيا وزينتها ، وعند التخلّف عليهنّ الانفصال عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) بتطليقهنّ .
2 ـ الانقطاع إلى الله والإخلاص لذاته المقدّسة ، والطاعة
(الصفحة 80)
والخضوع المطلق لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، والأجر الجزيل المضاعف الذي ينتظرهنّ عند تنفيذ هذا البند .
3 ـ اجتناب الفواحش وقبائح الأعمال والمنكرات الفاضحة .
4 ـ عدم الاختلاط بالرجال واجتناب الغرباء والحيطة ، حتّى في أسلوب الكلام ولحن الحديث بما يحصنهنّ عن أغراض الذين في قلوبهم مرض .
5 ـ القول المتّزن ، واجتناب القول المشين والحديث الجارح .
6 ـ عدم التبرّج وإظهار الزينة والجلوس في أماكن مشرّفة ، أو تطلّ على الطريق بحيث يكنّ على مرأى من الأجانب .
7 ـ الاستقرار في البيوت ، وعدم الخروج والتجوال في الطرق والتفسّح المريب ، ثمّ اجتناب الدخول في القضايا السياسية والشؤون العامّة للمسلمين .
كانت هذه نماذج من الاستنتاجات الحاصلة على ضوء الآيات المبيّنة لبرنامج نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) وما عليهنّ التقيّد به وفق تلك الآيات ، ونرى مدى الحرص والتأكيد القرآني على تنفيذ هذا البرنامج وإعمال هذه الخطّة يظهر متجلّياً واضحاً بتأمّل الآية الأخيرة:
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيرَاً}(1) وهي تذكرهنّ بالتعاليم والإرشادات التي أمرهنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) بها وما تلاه عليهنّ من آيات الله .
(الصفحة 81)امتياز الفريق الثاني
الفريق الثاني المنشعب من الأسرة الكبيرة هو
«أهل البيت(عليهم السلام) » وقد مرّ أن أيّاً من الآيات لم يشر إلى نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله)ـ
أي الفريق الأوّل ـ على أنّهنّ من
{أهل البيت} إذ نسب بيوتهنّ إلى أنفسهنّ ، وركز القرآن الكريم هذا المعنى في آيتين من قوله تعالى:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}(1)
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ}(2) . ولعلّ الأمر كان على هذه الكيفية حتّى يفقدن في المستقبل ، أي انتساب أو إضافة لرسول الله(صلى الله عليه وآله)أو ارتباط به ، سوى كونهنّ أزواجه . وبملاحظة البرنامج الذي اُلزمن بتنفيذه والعمل به ، عليهنّ حفظ بيوتهنّ وفق البنود والشروط التي نصّ عليها البرنامج
(اللائحة التنظيمية لهذه البيوت) بالبقاء فيها ، وتجنّب الخوض في القضايا الإسلامية العامّة ، إذ لا صفة ولا دور أو سمة رسمية تسمح لهنّ بالدخول في هكذا قضايا ، وفي حال التخلّف عن هذا البرنامج وعدم مراعاة شروطه ، فإنّ الانتساب والإضافة لرسول الله(صلى الله عليه وآله)ستسقط عنهنّ أيضاً .
من هنا كان جواب زيد بن صوحان لعائشة في الرسالة التي ذكرناها(3) واعتباره لها اُمّاً للمؤمنين ما دامت في بيتها ملتزمةً بالعمل بـ
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ، وكان كتاب اُمّ سلمة لعائشة المتضمّن للمعنى نفسه من توقّف تحلّيها بلقب اُمّ المؤمنين على التزامها البيت ، وعدم الخوض في القضايا السياسية العامّة وإثارة الفتن والحروب ، وخلع
- (1) الأحزاب: 33.
- (2) الأحزاب: 34 .
- (3) في ص 28 ـ 29 .
(الصفحة 82)
اللقب عنها عند تمرّدها ونكوصها
(اللائحة التنظيمية الداخلية لبيوت نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله))(1) .
أمّا الفريق الثاني
«أهل البيت»(عليهم السلام) فهو موكّل بمهمّة ودور ناهض بمسؤولية ووظيفة حفظ الإسلام وقيادة المسلمين وزعامتهم ، من هنا خلّيت النسوة (الفريق الأوّل) ومشيئتهنّ في عدم اجتراح الآثام وارتكاب الفواحش ، والالتزام بالبرنامج القرآني المرسوم لهنّ ، وبالتالي طهارتهنّ ونزاهتهنّ ، أمّا
{أهل البيت} صلوات الله عليهم فقد نزّههم الله وطهّرهم تطهيراً ، وأراد بأمره أن لا يعتري نفوسهم السامية كدر الذنب بل حتّى التفكير بالذنب ، أو ينال أرواحهم العالية لوث المعاصي ، فيبقون معادن خالصة مصفّاة يحقّ لها ويليق بها أن تتولّى دور الهداية وتخلف رسولَ الله(صلى الله عليه وآله) فيه(2) .
أمّا الآيات التي تحدّثت عن نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) فلا يستشم منها ريح التميّز والاصطفاء ، ولكنّك تجد تلك النفحة الإلهية في قمّة تجلّيها في
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ . . .} وتجد كيف تسطع شمس الكمال وتتلألأ درر الفضيلة في صفوة محدّدة وثلّة مذكورة على وجه الحصر والتخصيص بـ «إنّما» ، وبتقديم
«عنكم» على أهل البيت(عليهم السلام) ، وبفتح
«أهل» فالله أراد لهؤلاء ، لا للنساء ولا لغيرهنّ ، بل لهؤلاء الخمسة البعد عن الأهواء والأمراض الروحية ، أراد لهذه الطبقة المتميّزة وهذا النبع والجذر الطهارة والنزاهة والعصمة .
- (1) راجع ص27 .
- (2) يبقى بحث هنا حول فضل الأئمّة فيما أراده الله لهم تكويناً وما يُثار من شبهة الجبر ، وسيأتي الكلام في ذلك .
(الصفحة 83)
ويلاحظ من وقوع هذه الآية بين تلك الآيات أنّ السلبية التي تعاملت بها العناية الربّانية مع زوجات النبي اقتُطعت واستُثني منها الفريق الثاني
«أهل البيت»(عليهم السلام) ، فإمكان صدور الذنب وارتكاب الفواحش ومعصية الرسول ، والخروج من البيت والتدخّل المنهيّ عنه والخاطئ في قضايا المسلمين العامّة ممّا كانت تطفح به الآيات التي خاطبت زوجات النبي(صلى الله عليه وآله) ، قد اختفت واستُعيض عنها بإفاضة روحية ملكوتية تنزّه وتبرئ الفريق الثاني «
أهل البيت(عليهم السلام)» من كلّ ذنب ونقص .
فنساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) لهنّ الخيار في اتّخاذ طريق السعادة أو الشقاء ، أمّا أنشودة الرحمة الإلهية والعناية الربانية الخاصة وفيوضاتها القدسية فقد رتّلت ألحانها الغيبية في مسامع أهل البيت خاصة ، وناجتهم أن لا يظنّن أحد أنّكم كنساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، اُرخي لهنّ عنان الشطح واُلقي حبل الأهواء على غاربه ، اللّهم إلاّ لمن أرادت الفوز والنجاة فاعتصمت بسبيله . إنّه ظنّ باطل وخيال زاهق .
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ . . .} .
وعلى هذا ، فإنّ مفاد آية التطهير يختلف كلّياً عن مفاد بقيّة الآيات ، فلا يمكن أن يتوجّه الخطاب فيها إلى زوجات النبيّ الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين .
العلّة في ترتيب وتدوين الآية في هذا الموضع
مع أنّ آيات البرنامج القرآني لزوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) كانت تشير إلى عدم تمتّعهنّ بالخصوص بأيّ مقتض وأولوية ، ولم تكن تحكي أيّ نوع من الاستحقاق والكفاءة لهنّ ، ولم تمنحهنّ أيّ فضيلة أو مزيّة ، مع أنّ