(الصفحة 33)
وسعاً في إيصال أنفسهما سريعاً إلى السقيفة(1) حتّى لا تذهب جهود سنين متمادية قضياها في التخطيط والعمل لهذا اليوم ، تذهب أدراج الرياح باستباق الأنصار! وفي ذلك الجمع الغاصّ والمحفل الملتهب والأجواء المضطربة بدأ أبو بكر الكلام فخطب ، وكان آخر ما اقترحه أن تكون الإمرة للمهاجرين والوزارة للأنصار ، ولكن اقتراحه هذا سقط بمعارضة حبّاب بن منذر الذي كان من زعماء الأنصار ، وكاد الأمر أن يتمّ على هوى سعد بن عبادة ووفقاً لمراده ، لولا تدخّل ابن عمّه بشير بن سعد الخزرجي في موقف مفاجئ رجّح فيه أن تكون الزعامة للمهاجرين ، وأن يوكل الأمر إلى أحد رؤوس قريش ، ولم يكن بشير هذا على ما يرام مع ابن عمّه سعد ، وما كان موقفه يخلو من دواعي المنافسة والحسد له ، وبعد جدل ومناظرة وخبط ولغو امتدّ طويلاً ووسط غوغاء وفوضى ومعارضة هذا وذاك خُلعت الخلافة على أبي بكر . . .
طرب عمر لهذا الحدث وانتشى ، ورأى أنّ أحلامه السعيدة في طريقها للتحقّق من خلاله ، وأنّه سيكون فارس الميدان وله فرس السبق في الساحة الإسلامية ، ولكن في الوقت نفسه كان هاجس عليّ(عليه السلام)يقضّ مضجعه ، ترى هل يشمّر ابن أبي طالب(عليه السلام) عن ساعده ويطالب بحقّه؟ وحسماً لهذا القلق عمد إلى دار عليّ(عليه السلام) واقتاده إلى أبي بكر(2) ، فامتنع
- (1) اُنظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 7 .
- (2) هذا قول ابن أبي الحديد ، والكلام ليس في معرض البحث حول بتر التاريخ وتحريفه ، وإلاّ فالمقام ملي بما ينبغي بيانه حول هذه الواقعة الأليمة . . .
(الصفحة 34)
عليّ(عليه السلام) عن البيعة وأصرّ على امتناعه ، ولم يكن عمر ليخلّي سبيل أمير المؤمنين(عليه السلام) ، فما كان من شبل ابن أبي طالب(عليه السلام) إلاّ أن فجّرها في وجهه:
«احلب يا عمر حلباً لك شطره! اشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غداً ، ألا والله لا أقبل قولك ولا اُبايعه»(1) .
وهنا نعق المرتزق الأجير أبو عبيدة ، ولم يكن يملك من دليل لدفع الخلافة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) إلاّ حداثة سنّه! وفي ردّ هذه الأباطيل والترّهات نهض أمير المؤمنين(عليه السلام) باحتجاجه القاصم ، وكان ممّا استدلّ به آية التطهير ، وهذا نصّ حديثه صلوات الله عليه:
«يا معشر المهاجرين ، الله الله ، لا تُخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحنُ أهلَ البيت أحقُّ بهذا الأمر منكم . أما كان منّا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بالسنّة ، المضطلع بأمر الرعية ، والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بُعداً» فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعَتْه منك الأنصار يا عليّ قبل بيعتهم لأبي بكر ، ما اختلف عليك اثنان ، ولكنّهم قد بايعوا(2) .
إلتفاتة أدبية :
يرتكز الاستدلال هنا على نقطة أدبية لطيفة جاءت في كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) ، إذ يقول سلام الله عليه:
«نحنُ أحقُّ بهذا الأمر» وهي جملة
- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 11 .
- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 12 .
(الصفحة 35)
اسمية ذات مبتدأ وخبر تخلّلتهما عبارة
«أهل البيت» وقد وردت في حديث أمير المؤمنين(عليه السلام) بفتح «أهلَ» على ما ورد في نقل ابن أبي الحديد ، خلافاً للقاعدة النحوية التي توجب رفع «أهل» على البدلية ، وهذا ممّا يدلّ على الاختصاص وإشارتها للآية الكريمة
{لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ . . .} كما جاءت في الآية منصوبة للاختصاص ، من قبيل قوله
«نحن معاشرَ الأنبياء . . .»(1) حيث جاءت «معاشرَ» منصوبة للاختصاص وإفادة الحصر .
من هنا يصبح معنى قول أمير المؤمنين(عليه السلام) هو: إنّنا أهل البيت ـ ولا غير ـ أحقّ منكم أيّها المهاجرون بالزعامة والخلافة ، وأنّه ثوب لا يليق إلاّ بنا على نحو الحصر ووجه التعيّن ، كما ذهبت الآية فيما قرّرته من أنّ الطهارة وبالتالي الزعامة محصورة ومختصّة بأهل البيت ، وهكذا نجد أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو في معرض الاستدلال والمحاججة على أحقّيته بالخلافة في ذلك المحفل المُصطنع وأمام ترّهات أبي عبيدة ، يكتفي بالاحتجاج بآية التطهير لإثبات حقّه ، مع المندوحة والسعة وما هو مبذول لديه ومبثوث في أيدي المسلمين من فضائل وكمالات ومرجّحات تشكِّل شهادات وبراهين قاطعة على أعلميته وأعدليّته وأقربيّته من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وبالتالي وجوب وضرورة تقدّمه وتأخّر غيره . . . مع كلّ ذلك نجده سلام الله عليه يكتفي بسوق هذه الآية والاحتجاج بها ، وقد كانت دلالة هذه الآية من الوضوح والتسالم بحيث عقّب بشير بن سعد قائلاً: لو كان هذا الكلام سمعَتْه منك الأنصار يا عليّ
- (1) بحار الأنوار 67 : 231 ح47 .
(الصفحة 36)
قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان ، ولكنّهم قد بايعوا .
2 ـ في الشورى :
يروي السيّد هاشم البحراني قدّس الله نفسه الزكية ـ وهو من أجلّة علماء ومحدِّثي القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الهجري ، وله مؤلّفات كثيرة ، منها تفسيره المعروف «البرهان» ـ في كتابه «غاية المرام» في الصفحة 265 عن ابن بابويه القمي حديثاً معتبراً عن عامر بن واثلة ، وهو من كبار أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وضمن تلك الرواية نلمح هذه العبارة ، ثمّ ذكر ما احتج به أمير المؤمنين(عليه السلام) على أهل الشورى ، فقال في ذلك:
نشدتكم هل فيكم أحدٌ أنزل الله فيه آية التطهير على رسوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً . . .} ؟ قالوا: اللهمّ لا»(1) .
ويلاحظ هنا أنّ أُسلوب المولى سلام الله عليه في المحاججة لا يكتفي بالتقرير بل يأخذ شكل الاستفهام ، وأنّه يدين القوم بألسنتهم وبما لا يمكنهم إنكاره ، فيقول: هل نزل في أحد منكم آية التطهير؟
إذن فإمامنا العزيز سلام الله عليه أشار في موضعين حسّاسين إلى الآية الكريمة ، وأنّها تثبت استحقاقه وتعيّن الأمر فيه بمفهوم: أنّ آية التطهير حسمت مسألة القيادة ، وأن من قصدتهم الآية هم الوحيدون
- (1) في كتاب الاحتجاج للطبرسي هناك رواية أخرى عن الإمام الباقر(عليه السلام) في احتجاجات أمير المؤمنين(عليه السلام) على الستّة أصحاب الشورى ، يذكر فيها أمير المؤمنين(عليه السلام)آية التطهير في جملة ما احتجّ به على القوم ، ج1 ص192 .
(الصفحة 37)
القادرون على إمامة المسلمين والنهوض بزعامتهم:
الأوّل:
عند وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وفي خضم تعيين الخليفة ، ولم يكن قد مضى الكثير في ذلك الحين من زمن نزول الآية .
الثاني:
في شورى عمر السداسية التي أوكل إليها تعيين الخليفة من بعده ، وتمكّن بالاحتيال بها من إقصاء عليّ(عليه السلام) عن حقّه مرّة ثالثة هناك في تلك الشورى ، التي تشكّلت بعد ثلاث عشرة سنة تقريباً من وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وثلاث عشرة سنة وبضعة شهور على نزول آية التطهير ، نجد أنّ علياً(عليه السلام) يذكّرهم بها ، ويطرح من جديد أولويته بخلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وانفراده دونهم بهذا الحقّ من خلال التذكير والاستدلال بآية التطهير الشريفة .
3 ـ في خلافة الإمام الحسن(عليه السلام) :
عندما آلت الخلافة إلى السبط الأكبر الإمام الحسن بن علي(عليهما السلام)قام خطيباً فقال:
«أيّها . . . الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، . . . أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، وأنا ابن الداعي إلى الله ، وأنا ابن السراج المنير ، . . . وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»(1) .
نرى هنا كيف أنّ ثاني أئمّة المسلمين في معرض استدلاله على كفاءته ولياقته لمسند الإمارة والخلافة يشير ـ فضلاً عن تميّزه النَسَبي ـ
- (1) الأمالي للشيخ الطوسي: 270 ح501 ، بحار الأنوار 43: 361 ح3 .