( صفحه 35 )
محتملات الخاصّ. وعليه: فالآية كما لا دلالة لها على جواز إبداء الوجه والكفّين، لا دلالة لها على حرمة إبدائهما أيضاً بنحو العموم.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الآية إمّا أن تكون دالّة على جواز إبداء الوجه والكفّين; لكونهما من الزينة الظاهرة. وإمّا أن لا دلالة لها على حرمة إبدائهما بنحو العموم، كما لا يخفى.
ومن الآيات قوله ـ تعالى ـ : ( يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِّزْوَ جِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـبِيبِهِنَّ ذَ لِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )(1). وقد ورد في شأن نزول الآية أنّ الإماء في الصدر الأوّل كنّ يخرجن مكشوفات الرؤوس، وكان أهل الريبة والفسوق يتعرّض لهنّ ويمازحهنّ، وربما كان يتجاوز المنافقون إلى ممازحة الحرائر، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: حسبنا هنّ إماءً، فقطع الله عذرهم(2)، وقد يقال بعدم كون
الإماء مكشوفة الرؤوس في ذلك الزمان، بل كان لهنّ القميص والخمار فقط.
وكيف كان، فغرض الآية من الإيجاب المذكور أن يعرفن بالعمل على وفقه بكونهنّ حرائر، فلا يتوجّه إليهنّ الإيذاء والممازحة.
وأمّا الجلباب، ففي المفردات: أنّه الخمر والقمص(3)، ويظهر من بعض آخر: أنّه غيرهما(4). قال في الجوامع الجامع: الجِلباب ثوب واسع أوسع من
- (1) سورة الأحزاب 33: 59.
- (2) مجمع البيان 8 : 158، الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 3: 560.
- (3) مفردات ألفاظ القرآن: 199.
- (4) الصحاح 1: 132، لسان العرب 1: 440، المصباح المنير 1: 104، مجمع البحرين 1: 302.
( صفحه 36 )
الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها وتُبقي منه ما تُرسله على صدرها. وعن ابن عبّاس: الرّداء الذي يستر من فوق إلى أسفل، وقيل: الجِلباب الملحفة وكلّ ما يُتستَّر به من كساء أو غيره(1).
وأمّا معنى الآية، فربما يقال: إنّه عبارة عن أمر الله سبحانه نبيّه أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين أن يرخين جلابيبهنّ وملاحفهنّ على وجوههنّ، ويغطّين الوجوه بفضل جلابيبهنّ، ويسترن جميع البدن حتى لا يتعرّض لهنّ أهل الريبة والفسوق، ويعلم أنّهنّ أهل العفّة والشرف، فلا يطمعوا فيهنّ(2).
ففي الآية دلالة على الأمر بستر وجوههنّ، والتعليل الواقع فيها يؤكّد ذلك; لأنّ مرجعه إلى أنّهنّ يعرفن بسترهنّ للوجوه أنّهنّ أهل العفّة، لا أهل الريبة.
هذا، ولكنّ الظاهر أنّ مفاد هذه الآية هو مفاد قوله ـ تعالى ـ في الآية المتقدّمة ( وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )(3); نظراً إلى أنّ الإماء كنّ لم يضربن الخمار على الجيوب; لتصديهنّ لمثل الاشتراء من السوق وتهيّؤهنّ لأنواع الخدمات، فأمر الله ـ تعالى ـ الحرائر بأن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ليعرفن بذلك أنّهنّ حرائر، فلا يؤذين بالتعرّض والممازحة، أو نظراً إلى أنّ
- (1) جوامع الجامع 3: 332، وكذا في الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 3: 559 ـ 560.
- (2) راجع مجمع البيان 8 : 158، وتفسير المراغي 22: 37 ـ 38، والكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 3: 560.
- (3) سورة النور 24: 31.
( صفحه 37 )
المراد كون ذلك أقرب إلى أن يعرفن بالستر والصلاح، فلا يُتعرّض لهنّ; لأنّ الفاسق إذا عرف امرأة بالستر والصلاح لم يتعرّض لها.
ويحتمل أن يكون معنى الآية ـ بناءً على كون المراد من الجلباب الملحفة، أو الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل، كما عن ابن عبّاس ـ أنّ إدناء الجلباب عبارة عن جعله قريباً من البدن، بحيث صار كالمتّصل به في مقابل البعد، والفصل بينه وبين البدن; فإنّه مع عدم الإدناء كثيراً ما يظهر من الجسد شيء أو أشياء، بخلاف ما إذا كان قريباً من البدن; فإنّه موجب لستره بجميع أجزائه.
وكيف كان، فدلالة الآية على وجوب ستر الوجوه، بحيث كانت ظاهرة في ذلك، ممنوعة جدّاً.
ومن الآيات التي استدلّ بها على ستر الوجه والكفّين قوله ـ تعالى ـ : ( وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـعًا فَسْـَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَاب ذَ لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ... )(1); نظراً إلى أنّ مفاد الآية ليس من خصائص زوجات النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل حكم عامّ وارد في موردهنّ، كما أنّ سؤال المتاع ليس له خصوصيّة، والمنظور الملاقاة والمواجهة.
ولكنّه ينبغي أن يعلم أنّ الخطاب فيها متوجّه إلى الرجال دون النساء، فالواجب عليهم هو الملاقاة من وراء الحجاب والمانع، ولا دلالة لها على وجوب التستّر على النساء، فضلا عن أن تدلّ على وجوب ستر الوجه والكفّين.
( صفحه 38 )
وبالجملة: أنّ هذه الآية ناظرة إلى النهي عن الدخول في الدار بغير إذن; فإنّ معنى الحجاب هو المانع. وأمّا خصوصيّة المانع من جهة لزوم كونه مانعاً عن أيّ شيء، فلا دلالة في الآية عليها، وعلى تقديرها، فقد عرفت أنّ مدلولها الإيجاب على الرجال، ولا ملازمة بينه، وبين وجوب التستّر على النساء، كما لا يخفى.
إن قلت: إنّ المستفاد من التعليل المذكور في ذيلها أنّ الأطهريّة التامّة تحصل بستر الوجه والكفّين أيضاً.
قلت: لا دلالة لها على وجوب تحصيل الأطهريّة التامّة، وإلاّ لكان اللاّزم على النساء عدم الخروج من البيوت أصلا; لتحقّق الأطهريّة التامّة بذلك; ضرورة أنّ الخروج ولو مع ستر جميع البدن يوجب التوجّه إليهنّ والاطّلاع على حالهنّ ولو ببعض المراتب، وذلك ينافي الأطهريّة التامّة، فالآية غير دالّة على ذلك.
ومن الآيات التي استدلّ بها على ذلك قوله ـ تعالى ـ : ( يَـنِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ ى مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَ قَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـهِلِيَّةِ الاُْولَى... )(1) وتقريب الاستدلال بها من وجهين:
الأوّل: الأولويّة; فإنّه إذا كان الخضوع بالقول حراماً، فإبداء الوجه والكفّين حرام بطريق أولى.
الثاني: عموم العلّة; نظراً إلى اقتضاء الآية أنّ كلّ شيء موجب لتحقّق
- (1) سورة الأحزاب 33: 32 ـ 33.
( صفحه 39 )
الطمع لمن كان في قلبه مرض فهو حرام، ومن المعلوم أنّ إبداء الوجه والكفّين موجب لذلك.
والجواب عن الأوّل: أنّ الخضوع بالقول لا يقاس به إبداء الوجه والكفّين; فإنّه محرّك شديد وموجب للتحريك نوعاً دونه، كما لا يخفى.
وعن الثاني: أنّه لا يمكن الأخذ بعموم التعليل المذكور، وإلاّ لكان اللاّزم أن لا يخرجن النساء من البيوت رأساً. وأمّا الحكم بوجوب القرار في البيوت في قوله: ( وَ قَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ )، بناءً على كونه من القرار لا الوقار، فليس المراد به معناه المطابقي، الذي كان مرجعه إلى حرمة الخروج من البيت، بل هو كناية عن كون شأنهنّ إدارة البيوت والتصدّي لشؤونها، وليس من شأنهنّ الورود في الاُمور الاجتماعيّة التي يكون ظرفها خارج البيت، كما استدلّت به اُمّ سلمة في مكتوبها إلى عائشة في قصّة حرب الجمل(1).
كما أنّ المراد من التبرّج المنهيّ عنه هو إظهار المرأة وإراءة محاسنها، كما كان في الجاهليّة، فهذه الآية لا دلالة لها أيضاً على وجوب ستر الوجه والكفّين، وقد انقدح من جميع ذلك عدم تماميّة دلالة شيء من الآيات التي استدلّ بها على ذلك.
وأمّا السنّة، فهي على طوائف:
الاُولى: ما يكون مفادها أنّ النساء عورة، فقد حكي عن العلاّمة (قدس سره)
- (1) كتاب الجمل (سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) 1: 233.