( صفحه 517 )
وأمّا الصلاة الثانية في سائر موارد الجمع، فالظاهر أنّ مقتضى الجمع بين دليل السقوط، ومثل قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ بأذان وإقامة»(1)، وسائر الأدلّة(2)العامّة أو المطلقة الواردة في مشروعيّة الأذان في مطلق الصلوات، وكونه عبادة مستحبّة هو: كون السقوط فيها أيضاً بنحو العزيمة على ما هو المتفاهم عند العرف بعد ملاحظة الدليلين، كما عرفت(3) في صلاة العصر يوم الجمعة، والإنصاف أنّ السقوط فيها بنحو العزيمة لو لم يكن أقوى فلا أقلّ من كونه مقتضى الاحتياط الوجوبي، كما في المتن.
الأمر الثاني: الظاهر أنّ المراد من الجمع هو الجمع بين خصوص الظهرين وخصوص العشاءين، كما هو الظاهر من المتن. وأمّا الجمع بين العصر والمغرب مثلا، فالظاهر أنّه لا دليل على السقوط فيه. نعم، ورد النصّ على سقوط الأذان في مورد الجمع بين قضاء الصلوات(4) أيضاً. وأمّا في الأداء، فلا دليل عليه في غير ما ذكر.
الأمر الثالث: في معنى الجمع، ويظهر من الكلمات أنّه يجري فيه احتمالات أربعة:
الأوّل: أنّ المراد به إتيان الصلاتين في وقت فضيلة واحدة منهما; سواء فرّق بينهما بالزمان، أو صلاّهما من غير تراخ، وفي مقابله التفريق الذي هو
- (1) تقدّم في ص494.
- (2) تقدّمت في ص487 ـ 488.
- (3) في ص506 ـ 507.
- (4) الكافي 3: 291 ح1، تهذيب الأحكام 2: 282 ح1124، وج3: 158 ح340، وعنهما وسائل الشيعة 5: 446، كتاب الصلاة، أبواب الأذان والإقامة، ب37 ح1 و 2.
( صفحه 518 )
عبارة عن إيقاع كلّ صلاة في وقت فضيلتها، فلو أوقع صلاة الظهر في آخر وقت فضيلتها، وصلاة العصر في أوّل وقتها كذلك، فلا جمع ولو لم يتحقّق الفصل بينهما بزمان.
وهذا الوجه هو الظاهر من المحقّق (قدس سره) في مقام جوابه عن تلميذه جمال الدين الشامي حين سأل عنه واعترض عليه بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) إن كان يجمع بين الصلاتين، فلا حاجة إلى الأذان للثانية; إذ هو للإعلام، وإن كان يفرّق فلِمَ جعلتم الجمع أفضل؟ فأجاب (قدس سره) بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يجمع تارة، ويفرّق اُخرى، وأنّه إنّما استحببنا الجمع في الوقت الواحد إذا أتى بالنوافل والفرضين فيه; لأنّه مبادرة إلى تفريغ الذمّة(1).
فإنّ الظاهر أنّ المراد بالوقت الواحد هو وقت الفضيلة، وإلاّ فهو مشترك. وعليه: فهو ظاهر في أنّ المراد بالجمع ما ذكر، وأنّ الإتيان بالنوافل لا يقدح فيه، كما أنّه يظهر منه استحباب الجمع في جميع الموارد; لكونه مبادرة إلى تفريغ الذمّة.
الثاني: أن يكون المراد بالجمع والتفريق معناهما العرفي الذي يرجع إلى تحقّق الفصل بين الصلاتين بما يتحقّق معه التفريق، وعدمه بما يتحقّق معه الجمع، ففي الحقيقة هما أمران عرفيّان لا دخالة للشرع فيهما بوجه.
الثالث: أن يكون المراد بالجمع مجرّد عدم الفصل بينهما بالنافلة; سواء وقعتا في وقتهما، أو في وقت واحد; وسواء تحقّق الفصل بينهما، أو لم يتحقّق. وعليه: فمرجعه إلى ثبوت معنى شرعيّ للجمع والتفريق لا يرتبط بما هو
- (1) حكاه في ذكرى الشيعة 2: 335، وجواهر الكلام 7: 499.
( صفحه 519 )
معناهما عند العرف. نعم، يقع الكلام حينئذ في أنّ المراد هل هو الفصل بنفس النافلة، بحيث لو حصل الفصل بمقدارها لا يكون تفريقاً، أو أنّه يكفي الفصل بمقدار أدائها، كما أنّه يقع الكلام في أنّ المراد هل هو مطلق النافلة، أو أنّ المراد خصوص النافلة الموظّفة، كنافلة العصر الواقعة بين الظهرين، ونافلة المغرب الواقعة بين العشاءين.
الرابع: ما يظهر من المتن من أنّ المراد بالجمع معناه العرفيّ الذي يرجع إلى عدم الفصل بينهما، إلاّ أنّ الشارع قد خطّأ العرف وحكم بأنّ النافلة الموظّفة تمنع عن تحقّق الجمع أيضاً، فالتفريق يتحقّق إمّا بالفصل بمقدار يصدق معه التفريق عرفاً، وإمّا بالإتيان بالنافلة الموظّفة بين الصلاتين.
إذا عرفت ذلك فنقول:
لابدّ من ملاحظة الروايات الواردة في هذا المقام، وهي كثيرة:
منها: رواية محمد بن حكيم، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إذا جمعت بين صلاتين فلا تطوّع بينهما(1).
والظاهر اتّحادها مع روايته الاُخرى التي رواها في الوسائل بعد هذه الرواية قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوّع، فإذا كان بينهما تطوّع فلا جمع(2).
وربما يقال(3) بظهور الرواية في الاحتمال الثالث، ولكنّ الإنصاف أنّ
- (1) الكافي 3: 287 ح3، تهذيب الأحكام 2: 263 ح1050، وعنهما وسائل الشيعة 4: 224، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب33 ح2.
- (2) الكافي 3: 287 ح4، وعنه وسائل الشيعة 4: 224، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب33 ح3.
- (3) مستمسك العروة الوثقى 5: 557.
( صفحه 520 )
ظاهرها قدح التطوّع في الجمع، لا أنّ المراد من الجمع عدم التطوّع ولو مع الفصل الطويل، كما لايخفى.
ومنها: خبر الحسين بن علوان، عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال: رأيت أبي وجدّي القاسم بن محمد يجمعان مع الأئـمّة المغرب والعشاء في الليلة المطيرة، ولا يصلّيان بينهما شيئاً(1). ويحتمل أن يكون قوله (عليه السلام) : «ولا يصلّيان...» بياناً للجمع، فيدلّ على أنّ الصلاة بينهما قادحة في تحقّقه، ويحتمل أن يكون أمراً زائداً على الجمع، وعليه: فلا دلالة له على قدح التطوّع في الجمع بوجه.
ومنها: صحيحة أبان بن تغلب قال: صلّيت خلف أبي عبدالله (عليه السلام) المغرب بالمزدلفة، فلمّا انصرف أقام الصلاة فصلّى العشاء الآخرة لم يركع بينهما، ثمّ صلّيت معه بعد ذلك بسنة، فصلّى المغرب ثمّ قام فتنفّل بأربع ركعات، ثمّ قام فصلّى العشاء الآخرة، الحديث(2).
وحيث إنّ الرواية منقولة في جملة الكتب الفقهيّة هكذا: «ثمّ أقام(3) فصلّى العشاء الآخرة»; فلذا تخيّل منافاته مع الروايات الدالّة على قدح التطوّع في الجمع، مع أنّها منقولة في الوسائل مثل ما ذكرنا. وعليه: فلا منافاة بينهما،
- (1) قرب الإسناد: 114 ح339، وعنه وسائل الشيعة 4: 225، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب33 ح4، وبحار الأنوار 82 : 333 ح4.
- (2) الكافي 3: 267 ح2، وعنه وسائل الشيعة 4: 224، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب33 ح1.
- (3) كذا في هداية الاُمّة إلى أحكام الأئـمّة (عليهم السلام) 2: 52، ووسائل الشيعة 3: 163 ب33 ح1، طبع مكتبة الإسلاميّة بطهران، سنة 1376، بتحقيق الميرزا عبد الرحيم الربّاني (قدس سره) ، ولكن في الكافي ووسائل الشيعة طبع مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) : «ثمّ أقام».
( صفحه 521 )
خصوصاً بعد كون محطّ نظر الراوي في نقل القصّة هو إتيانه (عليه السلام) بالنافلة في سنة، وتركه لها في السنة السابقة، من دون نظر إلى مسألة الأذان والإقامة، ولذا ترك التعرّض لهما بالإضافة إلى صلاة المغرب في كلا الموردين، وكيف كان، فلا دلالة لها على عدم قدح التطوّع بوجه بناءً على النقل الذي ذكرنا.
ومنها: رواية عبدالله بن سنان قال: شهدت صلاة المغرب ليلة مطيرة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فحين كان قريباً من الشفق نادوا وأقاموا الصلاة فصلّوا المغرب، ثمّ أمهلوا الناس حتّى صلّوا ركعتين، ثمّ قام المنادي في مكانه في المسجد، فأقام الصلاة فصلّوا العشاء، ثمّ انصرف الناس إلى منازلهم، فسألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن ذلك؟ فقال: نعم، قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمل بهذا(1).
ولكنّها لا دلالة لها إلاّ على أنّ الإتيان بالركعتين بعد صلاة المغرب لا يقدح في الجمع الموجب لسقوط الأذان، ولا دلالة لها على أنّ الإتيان بالنافلة الموظّفة التي هي أربع ركعات أيضاً يكون كذلك.
ومنها: رواية أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا كانت ليلة مظلمة وريح ومطر صلّى المغرب، ثمّ مكث قدر ما يتنفّل الناس، ثمّ أقام مؤذّنه، ثمّ صلّى العشاء الآخرة ثمّ انصرفوا(2).
والظاهر أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «ثمّ أقام» هي الإقامة فقط، كما أنّ الظاهر
- (1) الكافي 3: 276 ح2، وعنه وسائل الشيعة 4: 218، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب31 ح1.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 35 ح109، الاستبصار 1: 272 ح985، وعنهما وسائل الشيعة 4: 203، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب22 ح3.