( صفحه 59 )
فإنّ إيجاب كشف الوجه عليها في حال الإحرام، وتحريم تغطيته يؤيّد بل يدلّ على عدم وجوب الستر عليها في غير حال الإحرام; لأنّه من البعيد جدّاً أن يصير المحرّم في غير حال الإحرام واجباً في حاله. وأمّا صيرورة الجائز واجباً أو محرّماً فلا بعد فيه أصلا.
ومنها: رواية عمرو بن شمر، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد فاطمة (عليها السلام) وأنا معه، فلمّا انتهينا إلى الباب وضع يده عليه فدفعه، ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت فاطمة (عليها السلام) : وعليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: أُدخل يا رسول الله، قال: أدخل أنا ومن معي؟ قالت: ليس عليَّ قناع، فقال: يافاطمة خُذي فضل ملحفتك فقنّعني به رأسك، ففعلت ثمّ قال: السلام عليك، فقالت: وعليك السلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: نعم، يا رسول الله قال: أنا ومن معي؟ قالت: ومن معك.
قال جابر: فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودخلت وإذا وجه فاطمة (عليها السلام) أصفر كأنّه بطن جرادة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مالي أرى وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول الله الجوع، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : اللهمّ مشبع الجوعة ودافع الضيعة،
أشبع فاطمة بنت محمد. قال جابر: فوالله لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها حتّى عاد وجهها أحمر، فما جاعت بعد ذلك اليوم(1).
ومنها: غير ذلك من الروايات الواردة في موارد مختلفة التي تظهر بالتتبّع،
- (1) الكافي 5: 528 ح5، وعنه وسائل الشيعة 20: 216، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب120 ح3.
( صفحه 60 )
وبذلك يتمّ الكلام في الجهة الاُولى من الجهتين المبحوث عنهما في باب الستر على ما عرفت.
وأمّا الكلام في الجهة الثانية; وهي الستر الذي يجب شرطاً للصلاة ونحوها.
فنقول: قد عرفت(1) الفرق بينه، وبين الستر الواجب النفسي من جهات متعدّدة، والكلام فيها أيضاً يقع في مقامين:
المقام الأوّل: فيما يتعلّق بالرجال، فنقول: قد اتّفق الأصحاب(2) على أنّ الواجب على الرجال هو ستر ما يكون ستره متعلّقاً للوجوب النفسي، فلا يجب عليهم إلاّ ستر العورة فقط، والعورة كما عرفت(3) عبارة عن أصل القضيب والبيضتين والدبر، وأوجب بعض العامّة عليهم أن يستروا جميع ما بين السرّة والركبة(4)، ولكن لا دليل عليه، بل يستحبّ نفسيّاً ذلك(5)، ويوجب ذلك أكمليّة الصلاة.
وأمّا الروايات الواردة في هذا المقام، فالمستفاد منها مفروغيّة أصل المسألة، وفي مقابلها روايات تدلّ على أنّ الرجل يصلّي في قميص واحد أو ثوب، مع أنّ القميص يستر بحسب ما هو المتعارف أكثر من العورتين، فهل هذه الروايات متنافية مع الطائفة الاُولى؟ ولا بأس بالتعرّض لبعض
- (1) في ص7 ـ 8 .
- (2) الخلاف 1: 398 مسألة 149، السرائر 1: 260، تذكرة الفقهاء 2: 444 مسألة 106، مفتاح الكرامة 6: 11، بداية المجتهد 1: 116 ـ 117.
- (3) في ص18.
- (4 ، 5) تقدّم تخريجهما في ص9.
( صفحه 61 )
الروايات من كلتا الطائفتين، فنقول:
أمّا الطائفة الاُولى:
فمنها: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عرياناً وحضرت الصلاة، كيف يصلّي؟ قال: إن أصاب حشيشاً يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع والسجود، وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته أومأ وهو قائم(1).
فإنّه يستفاد منها مفروغيّة اعتبار ستر العورتين فقط للرجل في الصلاة.
ومنها: صحيحته الاُخرى، عن أخيه قال: سألته عن الرجل صلّى وفرجه خارج لا يعلم به هل عليه إعادة، أو ما حاله؟ قال: لا إعادة عليه، وقد تـمّت صلاته(2).
فإنّ مدلولها أنّ عدم الإعادة إنّما هو لأجل الجهل بكون الفرج خارجاً، كما لا يخفى.
وأمّا الطائفة الثانية:
فمنها: رواية يونس بن يعقوب أنّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يصلّي في ثوب واحد؟ قال: نعم. قال: قلت: فالمرأة؟ قال: لا، ولا يصلح للحرّة إذا حاضت إلاّ الخمار، إلاّ أن لا تجده(3).
- (1) تهذيب الأحكام 2: 365 ح1515، مسائل عليّ بن جعفر: 172 ح298، وعنهما وسائل الشيعة 4: 448، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب50 ح1.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 216 ح851 ، مستطرفات السرائر: 96 ح15، وعنهما وسائل الشيعة 4: 404، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب27 ح1.
- (3) الفقيه 1: 244 ح1082، وعنه وسائل الشيعة 4: 405، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح4.
( صفحه 62 )
ومنها: رواية محمد بن مسلم في حديث قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ما ترى للرجل يصلّي في قميص واحد؟ فقال: إذا كان كثيفاً فلا بأس به، والمرأة تصلّي في الدرع والمقنعة إذا كان الدرع كثيفاً; يعني إذا كان ستيراً(1).
والظاهر أنّه لا منافاة بين الطائفتين; لأنّ الطائفة الثانية لا تكون إلاّ في مقام عدم وجوب أزيد من قميص واحد، أو ثوب كذلك في مقابل المرأة التي يجب عليها أزيد من ذلك، وليست في مقام إيجاب ستر كلّ جزء يستره القميص أو الثوب، كما لا يخفى، فلا منافاة أصلا.
ثمّ إنّه حيث إنّ اللون قد يكون مستوراً بحيث لا يكون قابلا للتمييز، ولكنّ الشبح لا يكون مستوراً; لأنّ الشبح عبارة عن الشيء الذي يرى نفسه ولكن لا يتميّز لونه ـ كما إذا كان الشيء مرئيّاً من وراء زجاجة كثيفة أو من البعيد، كما أنّه قد يكون الشبح مستوراً ولكنّ الحجم لا يكون مستوراً; لأنّ الحجم عبارة عن الشيء الذي لا يرى بنفسه، بل يرى الحاجب والساتر، ولكنّ الحاجب يحكي عنه، كما أنّه قد يكون الحجم أيضاً مستوراً ـ يقع الكلام في أنّ اللاّزم من الستر في باب الصلاة أيّة مرتبة من مراتبه، فنقول:
لا إشكال في أنّ ستر اللون الذي هو أقلّ مراتب الستر يكون معتبراً في الصلاة. وأمّا ستر الشبح، فاحتاط السيّد (قدس سره) (2) في العروة باعتباره، ولا يبعد
- (1) الكافي 3: 394 ح2، تهذيب الأحكام 2: 217 ح855 ، الفقيه 1: 243 ح1081، وعنها وسائل الشيعة 4: 406، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب28 ح7.
- (2) العروة الوثقى 1: 393 مسألة 1255.
( صفحه 63 )
ذلك; نظراً إلى أنّ المتفاهم عند العرف من الستر الموضوع للحكم هو ستر الشبح أيضاً; لأنّه مع عدم ستره يكون الشيء مرئيّاً بنفسه وإن لم يكن لونه متميّزاً، وهذا بخلاف ستر الحجم; فإنّ المفروض فيه عدم تعلّق الرؤية بنفس الشيء، بل بما يحكي عنه.
ولكن جمع من الأصحاب ـ ومنهم المحقّق الثاني(1) ـ ذهبوا إلى وجوب ستر الحجم أيضاً; استناداً إلى قاعدة الاشتغال الجارية في مورد الشكّ; لأنّه مع عدم تحقّق ستر الحجم يشكّ في تحقّق ستر العورة، المعتبر في الصلاة، اللاّزم تحصيله والعلم بتحقّقه.
وقد عرفت أنّ المتفاهم العرفي من الستر هو كون الشيء مستوراً بنفسه ولم يتعلّق به الرؤية كذلك. وأمّا كون الحجم أيضاً مستوراً، فهو خارج عمّا هو المتفاهم عند العرف، فلا مجال لقاعدة الاشتغال.
واستندوا(2) أيضاً إلى مرفوعة أحمد بن حمّاد إلى أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا تصلِّ فيما شفّ أو وصف; يعني الثوب المصقّل(3).
والمعروف في نقلها: «أو وصف» بواوين، كما قاله الشهيد في محكيّ الذكرى ومعناه: الثوب الحاكي للحجم. ولكن نقل عن تهذيب الشيخ (قدس سره) بخطّه:
- (1) ذكرى الشيعة 3: 50، جامع المقاصد 2: 95، الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 1: 101، فوائد القواعد: 159، الحاشية على مدارك الأحكام 2: 371.
- (2) كالشّهيد في ذكرى الشيعة 3: 50، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد 2: 95، والبهبهاني في مصابيح الظلام 6: 134.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 214 ح837 ، ذكرى الشيعة 3: 50، وعنهما وسائل الشيعة 4: 388، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب21 ح4، وبحار الأنوار 83 : 186.