(الصفحة 468)
وأمّا الإعانة التي هي العمدة ، فهي لغة بمعنى المساعدة ، يقال : أعانه على ذلك ، أي : ساعده عليه ، وعليه : فالمُعِين للإنسان هو المساعد له في جهة خاصّة أو سائر الجهات . ولكنّ الظاهر عدم اختصاص المساعدة بالمساعدة العملية ، بل تعمّ المساعدة الفكرية ، وإراءة الطريق والإرشاد إلى ما هو مطلوبه ومقصده ، وعليه : فالإعانة على الإثم معناها مساعدة الآثم وإعانته في جهة تحقّق الإثم وصدور المعصية ; سواء كانت مساعدة عملية ، أم مساعدة فكرية إرشاديّة ، والظاهر أنّه لا كلام في ذلك ، إنّما الكلام في أمرين :
أحدهما : أنّه هل يتوقّف صدق الإعانة على الإثم على قصد ترتّب الإثم وتحقّق المعصية ، بحيث لو لم يكن المُعِين قاصداً لترتّبها وصدورها من الآثم لم تتحقّق الإعانة أصلا ، أو لا يتوقّف صدقها على قصد صدور المعصية منه بوجه؟
ثانيهما : هل يتوقّف الصدق المذكور على تحقّق الحرام في الخارج وصدور الإثم من الآثم ، أم يتحقّق ولو لم يصدر المعصية منه في الخارج أصلا؟
قد يقال بلزوم كلا الأمرين من القصد وتحقّق الحرام في الخارج ، وقد يقال بعدم لزوم شيء من الأمرين ، بل بمحض إيجاد المقدّمة تتحقّق الإعانة ; سواء قصد ترتّب الحرام أم لا ، وسواء تحقّق الحرام في الخارج أم لا ، وقد يقال بالتفصيل بين الأمرين ; نظراً إلى اعتبار الأمر الأوّل دون الثاني ، أو العكس ، فيتحصّل أربعة احتمالات ، بل أقوال ، واللاّزم البحث في كلّ واحدة من الصّور الأربع ، فنقول :
أمّا الصورة الاُولى : وهي التي كانت مقرونة بالقصد وترتّب الحرام عليها خارجاً ، فلا إشكال في صدق الإعانة على الإثم فيها وإن كان العمل الصّادر من المعِين مقدّمة بعيدة ، كالغرس في الرواية النبوية المتقدّمة ، فإنّ غرس شجر العنب إن كان بقصد أن يصنع الخمر من عنبه ، وترتّب هذا القصد عليه في الخارج ، يكون
(الصفحة 469)
إعانة على الإثم ، ويصير الغارس ملعوناً كما في الرواية .
كما أنّ الصورة الثانية ـ وهي عكس الصورة الاُولى ـ تكون فاقدة للقصد والترتّب معاً ، فلا ينبغي الإشكال في عدم كونها إعانة وإن قيل بالصدق فيها أيضاً . ولعلّ مستنده إطلاق الغارس في الرواية النبويّة ، حيث لم يقيّد بالقصد أو الترتّب أصلا ، ولكنّ الظاهر أنّه لامجال للالتزام به ، وإلاّ يلزم أن يكون أكثر الأفعال محرّمة بعنوان الإعانة ; لصلاحيتها لاستفادة المعصية منها وترتّب الحرام عليها .
ويمكن أن يقال : إنّ إضافة الغارس إلى الخمر في الرّواية ـ مع عدم قابليّة الخمر للمغروسية ، وإنّما القابل هو النخل وشجر العنب ـ إنّما تصحّ على تقدير كون الغرض من الغرس ذلك ، وإلاّ فمطلق غرس النخل لا يصحّح إطلاق غرس الخمر ، فالرواية حينئذ لا دلالة لها ولو بظاهرها على حرمة مطلق الغرس واللّعن عليه ، كما لا يخفى .
وأمّا الصورة الثالثة : فهي ما إذا كان هناك قصد ، ولكنّه لا يكون ترتّب وصدور إثم وعدوان ، والظاهر أنّه لا مجال لتوهّم صدق الإعانة على الإثم والعدوان هنا ، بعد عدم تحقّق إثم ومعصية في الخارج حتّى يعان عليها . نعم ، لو كان المعِين قاطعاً بتحقّق الحرام وترتّبه عليه بالقطع الوجداني أو الحكمي ، يصدق عليه عنوان المتجرّي ; لقطعه بأنّ عمله إعانة على الإثم مع عدم كونه في الواقع كذلك ، كما أنّه يمكن أن يقال بالحرمة لا من جهة الإعانة بل من جهة اُخرى غيرها ، وأمّا الإعانة فلا مجال لتوهّمها بوجه .
والعجب من الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) ، حيث إنّه يظهر منه في مسألة بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً ، بل يصرّح بتقوّم الإعانة بالقصد والإتيان بالفعل بقصد حصول المعان عليه ; سواء حصل أم لم يحصل ، حيث إنّه ذكر في مقام الجواب عن بعض المعاصرين ، القائل باعتبار القصد وباعتبار وقوع المعان عليه في تحقّق
(الصفحة 470)
مفهوم الإعانة في الخارج ، وتخيّله أنّه لو فعل فعلا بقصد تحقّق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقّق منه ، لم يحرم من جهة صدق الإعانة ، بل من جهة قصدها ، بناءً على ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدّمات الحرام بقصد تحقّقه ، وأنّه لو تحقّق الفعل كان حراماً من جهة القصد إلى المحرّم ، ومن جهة الإعانة(1) ، أنّ فيه تأمّلا ، قال :
فإنّ حقيقة الإعانة على الشيء هو الفعل بقصد حصول الشيء ; سواء حصل أم لا ، ومن اشتغل ببعض مقدّمات الحرام الصادر عن الغير بقصد التوصّل إليه ، فهو داخل في الإعانة على الإثم ، ولو تحقّق الحرام لم يتعدّد العقاب(2) .
وجه التعجّب أنّ كون المعان عليه إثماً ومعصية لا يوجب التغيير في معنى الإعانة ، ومن الواضح أنّه مع عدم تحقّق المعان عليه في الخارج كيف يعقل تحقّق الإعانة عليه؟ فاذا لم يتحقّق التزويج مثلا لمانع ، هل يجوز دعوى أنّ زيداً أعان عمراً على التزويج ، ولو كان هناك إطلاق فهو مبنيّ على التسامح ، وإلاّ فالإطلاق الحقيقي لا يكون له وجه أصلا .
وأمّا الصورة الرّابعة : فهي عكس الصورة الثالثة ، وهي ما إذا كان هناك ترتّب وصدور معصية ، ولكنّه لم يكن في البين قصد ، والظاهر أ نّ المسألة خلافية ، فقد استظهر الشيخ من الأكثر عدم اعتبار القصد ، وحكى عن الشيخ في المبسوط الاستدلال على وجوب بذل الطّعام لمن يخاف تلفه بقوله (صلى الله عليه وآله) : من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيس من رحمة الله(3) .
وعن العلاّمة في التذكرة : أنّه استدلّ على حرمة بيع السّلاح من أعداء الدين بأنّ فيه إعانة على الظّلم(4) . وعن المحقّق الثاني : أنّه استدلّ على حرمة بيع العصير
- (1) عوائد الأيّام : 79 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 1 / 133 .
(3) المبسوط : 6 / 285 .
(4) تذكرة الفقهاء : 12 / 139 .
(الصفحة 471)
المتنجّس ممّن يستحلّه بأنّ فيه إعانة على الإثم(1) . وعن المحكي عن المحقّق الأردبيلي : أنّه استدلّ على حرمة بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً بأنّ فيه إعانة على الإثم(2) . وعن الحدائق : أنّه قرّره على ذلك(3) . وعن الرياض : أنّه بعد ذكر الأخبار الدالّة على الجواز في مسألة بيع العنب قال : وهذه النصوص وإن كثرت واشتهرت وظهرت دلالتها ، بل وربما كان بعضها صريحاً ، لكن في مقابلتها للاُصول والنصوص المعتضدة بالعقول إشكال(4) .
ثمّ استظهر أنّ مراده بالاُصول قاعدة «حرمة الإعانة على الإثم» ، ومن العقول حكم العقل بوجوب التوصّل الى دفع المنكر مهما أمكن ، ثمّ أيّد الشيخ ما ذكروه ـ من صدق الإعانة بدون القصد ـ بإطلاقها في غير واحد من الأخبار ، مع عدم تحقّق القصد في مواردها ، مثل النبويّ المتقدّم(5) «من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه»، وغيره من الرّوايات(6) .
ولكن يظهر من المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد اعتبار القصد في تحقّق مفهوم الإعانة(7) ، ووافقه جماعة من متأخّري المتأخّرين ، منهم : صاحب الكفاية(8)وصاحب الجواهر(9) .
وهنا قول ثالث ; وهو التفصيل بين ما إذا كانت تلك المقدّمة بعد إرادة الآثم
- (1) حاشية الإرشاد للمحقّق الثاني المطبوع مع حياة المحقّق الكركي وآثاره: 9 / 317 .
(2) مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 50 .
(3) الحدائق الناضرة : 18 / 205 .
(4) رياض المسائل : 8 / 55 .
(5) في ص 465 .
(6) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 1 / 133 ـ 135 .
(7) حاشية الإرشاد : 318 .
(8) كفاية الأحكام: 85.
(9) جواهر الكلام : 22 / 30 ـ 33 .
(الصفحة 472)
لذلك الإثم وعزمه على ذلك الفعل ، ولكن يتوقّف إيجاده على تلك المقدّمة ، كما إذا أراد ضرب شخص وعزم على ذلك ، ولكن يتوقّف وقوع الضرب في الخارج على وصول عصا بيده ، فأعطاه العصا بيده في هذه الحالة مع علمه بإرادته وعزمه ، فإنّ إعطاء العصا في هذه الحالة مع العلم المذكور يكون إعانة على الإثم وإن لم يقصد ترتّب الضرب ، بل يرجو أن لا يضرب ، وبين ما إذا كانت تلك المقدّمة من مبادئ الإرادة على الإثم .
وبعبارة اُخرى : التفصيل بين ما إذا كانت المقدّمة جزءاً أخيراً من العلّة التامّة لتحقّق الإثم ، وبين ما إذا لم تكن كذلك ، ففي الصورة الاُولى تتحقّق الإعانة ولو لم تكن المقدّمة مقرونة بقصد المعِين ، وفي الصورة الثانية يتوقّف تحقّق الإعانة على القصد وترتّب المحرّم والمعصية . أمّا توقّف الصورة الثانية على القصد فواضح ، وقد عرفت أنّ رواية لعن الغارس ناظرة إلى هذا الفرض(1) .
وأمّا عدم توقّف الصورة الاُولى على القصد ; فلأنّ المفروض تماميّة مقدّمات وقوع الحرام وتحقّق الإثم ونقصان هذه المقدّمة ، فإذا علم أنّه بإيجادها يتحقّق الحرام في الخارج ، فهو إعانة لا محالة وإن لم يكن قاصداً لتحقّقه ، بل كان الغرض من إعطاء العصا في المثال المذكور أنّه لا يريد مخالفة الآثم والإباء عن إيجاد مطلوبه ; وهو التمكّن من العصا . وقد اختار هذا القول جماعة ، منهم : المحقّق البجنوردي(2) ، وقبله الشيخ الأنصاري في آخر كلامه(3) ، وقبله المحقّق الأردبيلي في آيات أحكامه . قال في كتاب الحجّ منه عند بيان آية : {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(4) :
- (1) في ص 468 .
(2) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 1 / 368 ـ 369 .
(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 1 / 140 ـ 141 .
(4) سورة المائدة 5 : 2 .