(الصفحة 94)
أفعال العموم ; فإنّ تقديره مع فرض انطباقه على جميع الأفعال والأحداث ولزوم تعلّق الظرف به ، لا يحتاج إلى مؤونة زائدة ، فعند دوران الأمر بين التقديرين يكون الترجيح للتقدير الثاني ، أي : تقدير فعل من أفعال العموم لما عرفت .
وحينئذ نقول في المقام : إنّ جعل الظرف متعلّقاً بمثل «استقرّ» مع كون المبتدأ نفس المال الذي أخذته اليد في كمال الاستقامة والملاءَمة ; لأنّ معناه أنّ المال المأخوذ ثابت ومستقرّ على اليد حتى تتحقّق الغاية ، وهي أداء المال المأخوذ وردّه إلى صاحبه .
وبالجملة : لا يرى فرق بين المقام ، وبين ما إذا قيل : زيد على السّطح ، فكما أنّه لا مجال لدعوى الإجمال فيه بلحاظ احتمال كون المتعلّق هو «كائن» أو «مستقرّ» أو أشباههما من أفعال العموم ، واحتمال كون المتعلّق هو «قائم» أو «ضارب» أو أشباههما من أفعال الخصوص ; لتحقّق ملاك الحمل في القضية الحملية ، وهو الاتّحاد والهوهوية في كلا الأمرين ; لاتحاد زيد مع الكائن على السطح ، كاتّحاده مع القائم عليه أو الضارب عليه .
والوجه في بطلان دعوى الإجمال الرجوع إلى العرف والعقلاء في محاوراتهم ; فإنّهم لا يرون للقول المزبور إجمالا أصلا ، ولا يعاملون معه معاملة المجمل ; نظراً إلى الاحتمالين ، كذلك لا مجال لدعوى الإجمال في المقام ; لعدم الفرق بينه وبين القول المزبور إلاّ فيما لا يكون فارقاً بوجه ، كما ستأتي الإشارة إليه .
وكما أنّه لا مجال للتشكيك في كون المتعلّق في القول المزبور هو الفعل الّذي هو من أفعال العموم ; لأنّه المتفاهم عند العرف ، فإنّ تقدير مثل القيام والضرب يحتاج إلى مؤونة زائدة ، وليس كذلك تقدير شيء من أفعال العموم ،كذلك لا ينبغي التشكيك في المقام في أنّ المتعلّق المحذوف أيضاً شيء من أفعال العموم ; لعدم الفرق بين المقامين إلاّ في كون القول المزبور جملة خبرية حاكية ، والمقام بصدد إفادة
(الصفحة 95)
الحكم وفي مقام الإنشاء ، ومرجعه إلى كون الاستعلاء الذي هو مفاد كلمة «على» في القول المزبور استعلاءً خارجيّاً مشاهداً ، وفي المقام استعلاءً اعتباريّاً مقبولا عند العقلاء أيضاً ; فإنّهم يعبّرون في باب الدين بأنّ لزيد على عمرو كذا وكذا ، ومرجعه إلى أنّ الدّين ثقل على العهدة ومستعل عليه كاستعلاء زيد على السّطح ، على ما في المثال .
نعم ، الفرق بين المقام ، وبين مثال الدين ، إنّما هو في كون الثابت على الذمّة والمستقرّ على العهدة في باب الدّين هو الأمر الكلّي ، وفي المقام يكون الثابت والمستقرّ هو نفس المال المأخوذ الذي هو عين من الأعيان الخارجية لا محالة ، بلحاظ تعلّق الأخذ بها ، وهذا لا يكون موجباً للإفتراق من جهة ما هو المقصود في المقام ، من إثبات حكم وضعيّ بمقتضى حديث «على اليد» ; لما سيأتي(1) من تصوير كون العين الخارجيّة على العهدة وثبوتها على الذّمة ، وكيف كان ، لا ينبغي الإشكال في أنّ الظرف في المقام ظرف مستقرّ ، والمحذوف هو فعل من أفعال العموم .
وأمّا جعل الظرف لغواً متعلّقاً بمقدّر من أفعال الخصوص ، مثل : «يجب» ، فيدفعه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أنّ تقدير فعل من أفعال الخصوص خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلاّ مع انحصار الطريق به ، وهذا بخلاف تقدير فعل من أفعال العموم ، ومضافاً إلى أنّه لا معنى لتقدير مثل «يجب» في المقام ; بعد أنّه لا معنى لتعلّق الحكم التكليفي بذات المال المأخوذ ، بل لابدّ من تعلّقه بفعل من أفعال المكلّفين متعلّق بالمال المأخوذ ـ أنّ فاعل «يجب»في المقام هل هو ردّ المال المأخوذ إلى صاحبه ، أو حفظه من الضياع والتلف حتّى يتحقّق الردّ والأداء؟
فعلى الأوّل : يصير معنى الرواية ومفاد الحديث أنّه يجب أداء مال الغير
(الصفحة 96)
المأخوذ منه ، وهذا الوجوب يستمرّ إلى أن يتحقّق الأداء ، وهذا ركيك في الغاية ; لأنّه مثل قوله : تجب الصلاة حتّى يصلّي .
وعلى الثاني : يصير معنى الرواية أنّه يجب حفظ مال الغير المأخوذ منه حتّى يتحقّق الردّ والأداء ، وهذا المعنى ـ الذي استظهره صاحب العوائد(1)ـ وإن كان خالياً عن الركاكة ، إلاّ أنّ الظاهر كونه مخالفاً لما تكون الرواية في مقام بيانه وإفادته ; لأنّ المتفاهم العرفي من الحديث كونه في مقام بيان أمر أشدّ وأصعب من مجرّد وجوب الحفظ ، وبعبارة اُخرى : وجوب حفظ مال الغير ـ بعد كون المفروض أنّ الأخذ منه وقع بالقهر والقوّة وبدون إذنه ورضاه ـ كأنّه لا يحتاج إلى البيان بمثل هذا التعبير ، ضرورة أنّ الأخذ الكذائي لا يستلزم جواز المعاملة معه معاملة مال نفسه ، فالعبارة إنّما هي في مقام بيان أمر كأنّه عقوبة على الآخذ قهراً ، وهو اشتغال الذمّة وكون المال على عهدته ،وضمانه له بنحو الحكم الوضعي ، خصوصاً مع ملاحظة وقوع مثل هذه العبارة في مقام افادة اشتغال الذمة ، فيقال : لزيد على عهدتي كذا وكذا .
وهذه الاستفادة ليست لأجل مجرّد استعمال كلمة «على» التي هي موضوعة للنسبة الاستعلائية بين الشيء وبين مدخول هذه الكلمة ـ ضرورة أنّ استعمالها في الأحكام التكليفيّة في غاية الكثرة ، فيقال : يجب على زيد الصلاة والصيام والحج وأشباهها . وقد ورد في آية الحج قوله تعالى : {وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}(2) فأفادت الآية الإلزام بذكر كلمة «على» خاليةً عن ذكر الوجوب ونحوه ـ بل لأجل كون المبتدأ هو المال المأخوذ ، فملاحظة المبتدأ تقتضي استظهار كون المراد هو الثبوت الوضعي ، وكون المال ثابتاً ومستقراً على العهدة
- (1) عوائد الأيّام : 318 .
(2) سورة آل عمران 3 : 97 .
(الصفحة 97)
حتّى يتحقّق أداؤه ، وهذا أمر اعتباري لا يكون مورداً لإنكار العقلاء أيضاً .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الظرف في الحديث ظرف مستقرّ ، ومرجعه إلى استقرار وثبوت نفس المال المأخوذ على عهدة ذي اليد حتى تؤدّيه ، وهذا مع أنّه لا يحتاج إلى إضمار ما هو خلاف الأصل ـ كما عرفت ـ معنى في غاية اللطافة والاستقامة والملاءَمة ، ولا محيص من حمل الرواية عليه .
ثمّ إنّه من الواضح أنّه ليس المراد من اليد هي الجارحة المخصوصة ; لأنّه ربما لا يكون للغاصب تلك الجارحة المخصوصة ، كما أنّ الشيء المأخوذ ربما لا يكون قابلا لأن يؤخذ باليد كالدار مثلا ، فاللازم أن يقال بأنّ المراد منه هو الاستيلاء والتسلّط على شيء ; سواء كان في عالم الخارج والتكوين ،أو في عالم الاعتبار .
واستعمال اليد بهذا المعنى شائع في المحاورات العرفية ، بل في الكتاب والسنّة ، فيقال : الأمر بيدي أفعل ما أشاء ، كناية عن ثبوت القدرة والاستيلاء على ذلك ، وفي الكتاب حكى الله ـ تعالى ـ عن اليهود قولهم : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}(1) والنكتة في العدول عن تعبير اليهود باليد بنحو المفرد بقوله : {بَلْ يَدَاهُ} بصورة التثنية هي الإشارة إلى أنّه كما أنّ مجموع القدرة في مثل الإنسان متحقّق في مجموع اليدين ; لأنّ اليد الواحدة لها بعض الاقتدار وسهم من القدرة ، كذلك قدرة الله ـ تبارك وتعالى ـ على الإنفاق إنّما هي بنحو الكمال لا في خصوص مرتبة منه ، فالمراد ثبوت الاستيلاء الكامل والقدرة المطلقة له ـ تعالى ـ على الإنفاق ، غاية الأمر أنّ ثبوته وتحقّق الإنفاق توسعة وتضييقاً إنّما يرتبط بمشيئة الله وإرادته حسب المصالح التي يراها .
فانقدح أنّ المراد باليد في الحديث الشريف هو الاستيلاء ، وهل المراد منه
- (1) سورة المائدة 5 : 64 .
(الصفحة 98)
نفس الاستيلاء الذي هو معنى الإسم المصدري ، أو أنّ المراد به هو المستولى المتصف بصفة الاستيلاء؟ الظاهر والمتفاهم عرفاً من تعبير الحديث هو الثاني ; من جهة الحكم بثبوت المال المأخوذ واستقراره عليه ، ومن الواضح أنّ الحكم الشرعي إنّما يكون ثابتاً على المكلّف ، من دون فرق بين الحكم التكليفي وبين الحكم الوضعي . نعم ، بعض الأحكام الوضعية يكون موضوعه الأعيان الخارجية ، كالنجاسة الثابتة للدّم ، والطهارة الثابتة للماء ، ولكنّ المقام لا يشبه ذلك .
ومن جهة إسناد الأخذ إلى نفس ما يكون المال على عهدته ، ومن الواضح أنّ الآخذ هو المستولي ، ولا معنى لأخذ الاستيلاء ، وحتّى لو كان المراد باليد هي الجارحة المخصوصة لكان الآخذ حقيقة هو الإنسان ، واليد آلة للأخذ ووسيلة له ، وإسناد الأخذ اليها لعلّه لا يكون بنحو الحقيقة .
هذا كلّه لو كانت اليد كنايةً عن الاستيلاء والسّلطة ، وكان الاستعمال استعمالا كنائيّاً ، مثل استعمال كثير الرّماد وإرادة الجود والسّخاء والكرامة .
ويمكن أن يكون المراد من اليد في الحديث هو «ذا اليد» ، نظير استعمال العين في الربيئة الذي يكون استعمالا استعاريّاً مرجعه إلى أنّ الربيئة بلحاظ وصفه كأنّه يكون بجميع أعضائه وجوارحه عيناً باصرة ناظرة ، وقد حققنا في الاُصول(1) أنّ المجازات بأجمعها ـ من دون فرق بين الاستعارة وغيرها ـ لا يكون الاستعمال فيها استعمالا للّفظ في غير ما وضع له ، خلافاً لما هو المشهور بين أهل الأدب ; لعدم تحقّق اللّطافة والظّرافة في استبدال لفظ مكان لفظ ، من دون التصرف في دائرة المعنى ، وثبوت نحو ادّعاء في البين ، فالمجازات بأجمعها شبيه ما يقول السكّاكي في باب الاستعارة من أنّ إطلاق لفظ الأسد وإرادة الرجل الشجاع لا يرجع إلى
- (1) اُصول فقه الشيعة : 1 / 413 ـ 427 .