(الصفحة 358)
بعضهم تنزيل كلام المشهور أيضاً على ذلك لا الشرعية بالمعنى الأوّل(1) .
والثمرة بين هذا القول والقول الثاني ـ بعد اشتراكهما في بطلان عبادة الصّبي ، وعدم إمكان رعاية قصد الامتثال فيها ; لعدم رجحانها بالإضافة إليه أصلا ـ تظهر في ترتّب الثواب وحصول الأجر للصبي وعدمه ; فإنّه بناءً على القول الثاني يكون الصبيّ بعيداً عن الثواب بمراحل ; لعدم تعلّق خطاب إليه بوجه ، غاية الأمر كون الوليّ مستحقّاً للثواب إذا أمر الصبي بالعبادة وحمله عليها .
وأمّا بناءً على القول الثالث فالصبيّ يستحق الثواب باعتبار التمرّن والتعوّد لكونه مأموراً به بالإضافة إليه . ولا ينافي استحقاق الولي من جهة موافقة الأمر بالتمرين والتعويد . نعم ، لا يستحق الصبيّ ثواباً من جهة أصل العبادة وتحقق الصلاة والصيام ونحوهما .
وأمّا الفرق بين هذا القول والقول الأوّل المبنيّ على الشّرعية الأصلية ـ بعد اشتراكهما في استحقاق الصبي للثواب والأجر ، غاية الأمر أنّ استحقاقه له في الأوّل إنّما هو لأجل تحقّق العبادة المطلوبة منه ، ولأجل الإتيان بالصلاة الصحيحة مثلا ، وفي الثاني إنّما هو لأجل التمرّن والتعوّد لا لحصول الصلاة ـ فهو أنّ العبادة بناءً على القول الأوّل تكون متصفة بالصّحة لاجتماعها لجميع الشرائط المعتبرة فيها ، فيجوز أن تقع نيابة عن الغير حيّاً كان أو ميّتاً ، وسواء كانت في مقابل الاُجرة أو بدونها .
وأمّا بناءً على القول الثالث فلا تتصف بالصّحة أصلا ; لعدم كونها ذات مصلحة ومطلوبة للشارع ، والغرض حصول التمرّن والتعوّد ، وهو يتحقق بالمباشرة ولا يكون قابلا للنيابة بوجه ، ولا يكون في أصل الفعل ثواب قابل للرجوع إلى شخص آخر ، فلا يمكن أن تقع نيابة عن الغير مطلقاً .
(الصفحة 359)
وربما يقال بظهور الثمرة في نيّة العبادات الواجبة ، فعلى التمرين ينوي الوجوب ، وعلى الشرعية ينوي الاستحباب ; لأنّه بناءً عليها يكون جميع العبادات مستحبّة بالإضافة إلى الصّبي .
ولكنّ الظاهر أنّه بناء على الّتمرين لا يلزم نيّة الوجوب ; لأنّه وإن كان بناءً عليه يكون المطلوب حصول صورة العمل بالنحو الذي يقع من البالغ ، إلاّ أنّ لزوم نيّة الوجوب ممنوعة ; لأنّ الغرض حصول التمرين العملي ليسهل عليه الإتيان به بعد البلوغ ، ولا دخالة للنيّة في ذلك ، فتدبّر .
الرّابع : أنّ عبادات الصبي شرعية فيها ثواب أصل العمل ، مثل ثواب عمل البالغ ، لكنّه في الصبي يرجع الثواب إلى الولي ولا يستحقّه الصغير بوجه .
الخامس : التفصيل بين العبادات الواجبة كالفرائض اليوميّة ، وبين العبادات المستحبة كصلاة الليل ، بالقول بالشرعيّة في الثانية وعدمها في الاُولى .
الجهة الثانية : في أدلّة الأقوال والاحتمالات المذكورة في الجهة الاُولى . فنقول : أمّا دليل القول الثاني ، وهو عدم المشروعيّة وكون عباداته تمرينيّة صرفة لا يترتّب عليها ثواب بالإضافة إلى الصغير أصلا ـ فمضافاً إلى أصالة عدم ترتّب الثواب إلاّ بالدليل وهو منتف ، وانصراف الأدلّة العامّة الواردة في التكاليف مطلقاً عن الصّبي واختصاصها بالبالغ ، ووضوح تقيّد بعض الأحكام قطعاً بالبلوغ ; كالواجبات والمحرّمات من جهة الإيجاب والتحريم ـ حديث «رفع القلم عن الصّبي» المعروف المعتمد عليه عند العامّة(1) والخاصّة(2) .
- (1) السنن الكبرى للبيهقي : 6 / 327 ح 8391 ، سنن الدارقطني : 3 / 102 ح 3240 ، سنن الترمذي : 4 / 32 ح 1427 ، الحاوي الكبير : 9 / 485 ، المغني لابن قدامة : 10 / 88 وغيرها .
(2) تقدم في ص 347 .
(الصفحة 360)
وتقريب دلالته : أنّ ظاهر الحديث رفع قلم مطلق التكليف ، أعمّ من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة ، بل المباح أيضاً ، فالمعنى : أنّ القلم الجاري الموضوع على المكلّفين المتضمّن لثبوت التكليف عليهم فهو مرفوع عن الصبي حتى يحتلم ، وليس فيه إشعار ـ فضلا عن الدلالة ـ بأنّ المرفوع خصوص قلم التكليف الإلزامي وجوباً أو تحريماً ، بل المرفوع جميع الأحكام الخمسة التكليفيّة الثابتة على البالغ ، حتى الإباحة بعنوان أنّها حكم شرعيّ جرى عليها القلم .
ومنه يظهر أنّه لو نوقش في انصراف الأدلّة العامّة عن الصبي ، وقيل : بأنّ مقتضى عمومها الشمول له أيضاً ، لكان مقتضى قاعدة التخصيص حملها على خصوص البالغ ; لأنّ حديث «رفع القلم» بمنزلة المخصّص لتلك الأدلّة ويوجب اختصاصها بالبالغ .
ولو فرض كون النسبة بين بعض تلك الأدلّة ، وبين حديث «رفع القلم» عموماً من وجه ، كقوله : من قرأ سورة الفاتحة فله كذا وكذا من الأجر ، فإنّ النسبة بينه وبين الحديث عموم من وجه ; لاختصاص هذا القول بقراءة سورة الفاتحة ، وعمومه بالنسبة إلى الصبي ، واختصاص حديث الرفع بالصبي ، وعمومه لغير قراءة سورة الفاتحة ،فلاشك في عدم تحقّق التعارض ; لأنّ حديث «رفع القلم» حاكم على ذلك القول ، كحكومة حديث الرفع(1) المعروف على الأدلّة الأوّلية ، كما لايخفى .
فالنتيجة على جميع التقادير لزوم الأخذ بحديث «رفع القلم» ، والحكم بعدم ثبوت شيء من التكاليف الخمسة في حقّ الصبي ، والثواب الموجود في البين لا يرتبط بالصبي أصلا ، بل بالوليّ بعنوان كونه مأموراً بتمرينه وتعويده ، فعباداته لا تكون شرعيّة بل تمرينيّة صرفة .
(الصفحة 361)
ويظهر الجواب عن دليل هذا القول بما سنذكره من أدلّة القول بالمشروعيّة الأصليّة ، فنقول :
أمّا ما يدلّ عليها فاُمور متعدّدة :
أحدها : ما دلّ من العمومات في الكتاب والسّنة على ترتّب الثواب على الأفعال ، كقوله تعالى : {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(1) وقوله (عليه السلام) : من صام يوم كذا فله من الأجر كذا وكذا(2) ; فإنّ سياقها مثل سياق «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» ، فكما أنّ الثاني لا يختصّ بالبالغ ; لما عرفت من عدم اشتراط الأحكام الوضعيّة بالبلوغ(3) ، كذلك لا ينبغي دعوى اختصاص الأوّل بالبالغ ، ودعوى الانصراف ممنوعة ، وعلى تقديره لا فرق بين المقامين كما هو ظاهر .
ثانيها : عموم الأدلّة الواردة في التكاليف الشامل للصبي أيضاً ، ولا مجال لادّعاء الانصراف فيها أصلا ، والقدر المسلّم ثبوت التخصيص بالإضافة إلى الأحكام الوجوبيّة والتحريميّة ، من جهة عدم ثبوت إلزام من ناحية الشارع على الصبي غير البالغ . وأمّا ثبوت التخصيص في أدلّة سائر الأحكام فغير حاصل ، وفي أدلّة الحكمين أيضاً بالإضافة إلى المشروعيّة والرجحان زائدة على اللزوم .
وأمّا حديث «رفع القلم» ، فإن اُخذ بمقتضى ظاهره فاللازم الحكم بعدم ثبوت الأحكام الوضعيّة في حقّ الصبي أيضاً ; لأنّ القلم المرفوع أعمّ من قلم الحكم التكليفي والحكم الوضعي ; لأنّ الضمان في مورد الإتلاف مثلا مجعول كالوجوب في مورد الصلاة ، ولا مجال لدعوى التخصيص فيه ; لعدم ملاءمة سياقه للتخصيص أصلا .
- (1) سورة الأنعام 6 : 160 .
(2) وسائل الشيعة : 10 / 471 ، كتاب الصوم ، أبواب الصوم المندوب ب 26 .
(3) في ص 345 ـ 352 .
(الصفحة 362)
فاللازم أن يقال بأنّ المرفوع في الحديث هو قلم المؤاخذة والعقوبة الاُخروية أو الدنيوية أيضاً ، كما مرّ في العبارة المتقدّمة عن الشيخ (قدس سره) (1) ، ولازمه عدم ثبوت التكليف اللزومي في حقّه ، وعدم ترتّب استحقاق العقوبة على ترك الواجب وفعل الحرام ، فيقتصر في تخصيص عمومات أدلّة التكاليف على هذا المقدار .
ودعوى أنّ لازم ذلك عدم تحقّق التخصيص في أدلّة المستحبات والمكروهات فقط . وأمّا أدلّة الواجبات والمحرّمات ، فبعد عروض التخصيص لها لا محالة كيف يستكشف مشروعيّة عبادة الصبي ـ مثل الصلاة ورجحانها ـ حتى يحكم بصحّتها؟ لأنّ الدليل الكاشف هو تعلّق الأمر بها ، وبعد انحصار دائرة الأمر بالبالغ ليس هنا ما يكشف عن رجحانها بالإضافة إلى الصبي .
وبعبارة اُخرى : مدّعى القائل بالمشروعيّة كون الواجبات في حقّ البالغين مستحبات في حقّ غير البالغين ، وكون المحرّمات في حقّ الطائفة الاُولى مكروهات في حقّ الطائفة الثانية ، وحينئذ يسأل عنهم : أنّه مع تخصيص أدلّة الواجبات والمحرّمات بحديث «رفع القلم» لا يبقى ما يدلّ على استحباب الاُولى وكراهة الثانية ; لأنّ الدليل كان منحصراً بدليل الواجب والمحرّم ، والمفروض عروض التخصيص لهما ، فمن أين يستكشف رجحان الواجب واستحبابه وحزازة الحرام وكراهته بالإضافة إلى الصّبي؟
نعم ، أدلّة المستحبات والمكروهات حيث لم يعرض لها التخصيص كما هو المفروض ، تكون باقية بحالها .
مدفوعة بما قيل أو يمكن أن يقال في جوابها من اُمور متعدّدة :
الأوّل : أنّ مقتضى طبع الطلب الصادر من المولى هو الوجوب ; لحكم العقل بلزوم إطاعته ، إلاّ أن يأذن المولى في الترك ، والإذن في الترك كما يحصل بالتصريح