(الصفحة 374)
بأن يكون بابه مغلقاً والمفتاح في يده ، و هكذا .
كما أنّ الاستيلاء يختلف باختلاف الأشخاص ، فاستيلاء الرّعية لا يتجاوز حدود داره وعقاره مثلا ، وأمّا السلطان فهو مستول على المملكة بأسرها ، فالتصرّف في شيء من أراضيها وغيرها ولو كان هي القطعة من السماء المختصّة بها المعبّر عنها بالحريم الفضائي ، تصرّف فيما هو تحت يده واستيلائه .
نعم ، ربما يتزاحم بعض الجهات الموجبة للاستيلاء مع البعض الآخر ، كما إذا كان أحد الشخصين راكباً على الدابّة وزمامها بيد الآخر ، وفرض إدّعاء كلّ منهما ملكية تمامها ، ولابدّ حينئذ من المراجعة إلى العرف ، وأنّه إن حكم بتقدّم أحد الاستيلائين فهو ، وإلاّ فيسقط كلاهما عن الاعتبار .
وبالجملة : لا شبهة في أنّ المراد باليد هو الاستيلاء الفعلي والسلطة الخارجية الملحوظة عند العرف والعقلاء ، ومجرّد القدرة على تحصيل هذا الاستيلاء لا يوجب تحقّق اليد .
ودعوى أنّ اليد بهذا المعنى تارة : تكون مسبّبة عن الملكية ، كما في موارد البيع والصلح والإرث الذي هو سبب قهريّ ، واُخرى : تكون سبباً لحصولها ، كما في باب الحيازة .
مدفوعة بأنّه إن كان المقصود من هذه الدعوى كون اليد عبارة اُخرى عن الملكية التي هي أمر اعتباري ، فيردّه ـ مضافاً إلى منع اقتضاء السببية والمسببية لذلك كما هو واضح ـ : أنّ المراد باليد كما عرفت هو الاستيلاء الخارجي المعتبر عند العرف ، المتوقّف على مباد واقعية ومقدّمات خارجية ، وهو يغاير الملكية التي هي أمر اعتباري محض ; فإنّ الاستيلاء وإن كان أمراً اعتباريّاً ، ولا مجال لدعوى كونه من الاُمور التكوينية ; ضرورة أنّ ما يكون في الخارج هو تصرّف المستولي على الدّار مثلا بما شاء ، إلاّ أنّ كون هذا التصرّف استيلاءً ويداً عليها منوط باعتبار
(الصفحة 375)
العقلاء ، بمعنى : أنّ العرف يعدّ ذلك يداً واستيلاءً ، فالمقام نظير الفوقية والتحتية التي هي من الاُمور الاعتباريّة ، غاية الأمر له مباد خارجيّة .
وإن كان المقصود انحصار دائرة اليد بموارد ثبوت الملكيّة سبباً أو مسبّباً ، فمن الواضح أيضاً خلافه ; لأنّه ربما يتحقّق غصباً أو بصورة التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، غاية الأمر أنّ اليد التي هي موضوع القاعدة ـ كما سيأتي(1) ـ عبارة عن اليد المشكوكة التي لم يعلم اقترانها مع الملكية أو الإذن من المالك ، ويحتمل كونها عن غصب ، فلا مجال للمناقشة في أنّ المراد باليد نفس الاستيلاء الخارجي المتحقّق عند العرف والعقلاء .
ثمّ إنّه ربما يتحقّق تعدّد اليد والاستيلاء بالنسبة إلى مال واحد وشيء فارد ، كالشريكين أو الشركاء في دار واحدة ، وعليه : فمقتضى قاعدة أمارية اليد الحكم بثبوت الملكيّة لهما أو لهم بنحو الشركة والإشاعة ، وسيأتي الكلام فيه مفصّلا إن شاء الله تعالى .
كما أنّه لا شكّ في أنّ يد الوكيل إذا اعترف بالوكالة تكون يد الموكّل ، وهكذا غير الوكيل ، كالودعي والمستأجر والمستعير والمرتهن وأشباههم .
الجهة الثانية : في مدرك القاعدة ومستندها ، وهو اُمور :
الأوّل : بناء العقلاء من جميع الملل والاُمم ، من غير فرق بين المتديّنين منهم وغيرهم ، على اعتبارها وكونها أمارة عندهم لملكيّة ذي اليد ، ولا شبهة في ثبوت هذا البناء وتحقّق هذه السيرة ; فإنّهم يرتّبون آثار الملكية على ما في أيدي الناس ، ولا يتفحّصون عن أنّه هل هو ملك لهم أم لا؟ بل يجعلون اليد والاستيلاء الخارجي أمارة على الملكية ، بحيث لا يعتنون باحتمال كونها يداً عادية غير مالكية .
وما ذكرنا من الأمارية ليس لأجل استحالة أن يكون للعقلاء تعبّد في
- (1) في ص 385 ، الجهة الثالثة .
(الصفحة 376)
اُمورهم حتى تمنع الاستحالة ، بل لأجل أنّ الأصل والتعبّد مرجعه إلى البناء على ما هو مقتضى الأصل في محلّ الشك ومورد الشبهة ، مع أنّه من الواضح أنّ اعتبار اليد عند العقلاء ليس بهذا النحو ، ضرورة أنّهم لا يبنون على الملكية مع الشك فيها ، ولا يتعبّدون بالملك وآثاره مع احتمال خلافه ، بل احتمال الخلاف ملغى عندهم لا يعتنون به أصلا .
وبالجملة : لا مجال للإشكال في كون اليد فعلا عند العقلاء من الأمارات ، ولا ننكر إمكان أن يكون بحسب الأصل أصلا تعبّديّا مجعولا لأجل عدم تحقّق اختلال في النظام ، أو عدم حفظ السوق بدون اعتبارها ، لكن هذا الإمكان لا ينافي كونه بالفعل يعامل معه عند العقلاء معاملة الامارة الكاشفة الموجبة لإلغاء احتمال الخلاف .
وهذا المقدار الذي هو عبارة عن ثبوت الأمارية عند العقلاء يكفينا في مقام الاستدلال والاستناد ، ولا يلزم التفحّص والتفتيش عن ملاك الطريقية عندهم ، وأنّه هل هو الغلبة أو شيء آخر؟ مضافاً إلى أنّه لا فائدة فيه ; لعدم اقتضاء الفحص للوصول إلى إدراك الواقع وكشف الحقيقة ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّ الظاهر عدم تحقّق ردع من الشارع عن هذه الطريقة العقلائية ، ولو قيل بعدم كفاية عدم ثبوت الردع ، بل بالافتقار إلى الإمضاء من ناحيته ، نقول : إنّ الرّوايات المتكثّرة الآتية صالحة للإمضاء ، وتأكيد تلك الطريقة وإدخالها في محيط الشرع .
الثاني : الإجماع المحقّق والإتّفاق على اعتبار ملكيّة ذي اليد بالإضافة إلى ما في يده ، ولا شبهة في تحقّق هذا الإجماع(1) ، إلاّ أنّه لا يصلح أن يكون حجّة برأسه و دليلا مستقلاًّ ; لأنّه بعد وجود مدارك متعدّدة ، ولا سيّما روايات متكثّرة في المسألة ،
- (1) عوائد الأيّام : 737 عائدة 69 ، القواعد الفقهيّة للمحقق البجنوردي : 1 / 139 .
(الصفحة 377)
واحتمال استناد المجمعين إليها ، لا يبقى للإجماع أصالة ولا كاشفية ، فلا يكون دليلا في مقابلها كما أشرنا إليه مراراً .
الثالث : الروايات المتكثّرة التي تستفاد منها القاعدة ; وهي على ثلاث طوائف :
الطّائفة الاُولى : ما يدلّ بظاهره على اعتبار اليد بنحو الأماريّة ، كموثقة يونس بن يعقوب ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في امرأة تموت قبل الرجل ، أو رجل قبل المرأة ، قال : ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ، ومن استولى على شيء منه فهو له(1) .
والإشكال في سند الرّواية من جهة الزّبيري(2) مدفوع بأنّ الظاهر باعتبار ملاحظة رواياته كونه ثقة في نقل الرّواية ، كما أنّ دلالتها على اعتبار الاستيلاء واليد وكونها طريقاً إلى ثبوت الملك واضحة ; فإنّ الحكم باختصاص متاع النساء بهنّ إنّما هو لأجل كون ذلك أمارة على يدها ، فهو أمارة على الأمارة ، كما أنّ اشتراكهما في ما كان مشتركاً بينهما إنّما هو لأجل كشف ذلك عن ثبوت اليد لهما معاً ، فالجملتان الأوّليتان في الرواية تدلاّن على وجود اليد وثبوتها ، غاية الأمر ثبوتها في الاُولى للمرأة ، وفي الثانية للرجل والمرأة معاً .
والجملة الأخيرة تدلّ على أمارية اليد وكون الاستيلاء دليلا على الملكية ، وليس المراد الاقتصار على اليد في مقام النزاع ـ بل الظاهر أنّ المراد بيان اعتبار اليد بالنسبة إلى ذيها ـ حتى يجب على الآخر إقامة البيّنة ، ومع عدمها يكتفى بيمين ذي اليد ، وعدم تعرّض الرواية لما كان من متاع الرجال فقط ، وأنّه للرجل ، لا يقدح في
- (1) تهذيب الأحكام : 9 / 302 ح 1079 ، وعنه وسائل الشيعة : 26 / 216 ، كتاب الفرائض والمواريث ، أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3 .
(2) هو : عليّ بن محمد بن الزبير القرشي الواقع في طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضال .
(الصفحة 378)
الاستدلال بها ; لإمكان أن يكون ذلك لأجل كون التعرّض للقسمين الآخرين كافياً ومغنياً بعد بيان الملاك ، وأنّه هو اليد ، وهي حجّة كما لا يخفى .
ورواية عبدالرحمن بن الحجّاج ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألني هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟ فقلت له : بلغني أنّه قضى في متاع الرجل والمرأة إذا مات أحدهما ، فادّعاه ورثة الحيّ وورثة الميّت ، أو طلّقها ، فادّعاه الرجل وادّعته المرأة ، بأربع قضايا ، فقال : وما ذاك؟ قلت : أمّا أوّلهنّ فقضى فيه بقول إبراهيم النَخّعي ، كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة ، ومتاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل ، وما كان للرّجال والنساء بينهما نصفان ، ثمّ بلغني أنّه قال : إنّهما مدّعيان جميعاً ، فالذي بأيديهما جميعاً بينهما نصفان .
ثمّ قال : الرجل صاحب البيت والمرأة الداخلة عليه ، وهي المدّعية ; فالمتاع كلّه للرجل إلاّ متاع النساء الذي لا يكون للرجال ، فهو للمرأة ، ثمّ قضى بقضاء بعد ذلك لولا أنّي شهدته لم أروه عنه ، ماتت امرأة منّا ولها زوج وتركت متاعاً ، فرفعته إليه فقال : اكتبوا المتاع ، فلمّا قرأه قال للزوج : هذا يكون للرجل والمرأة ، فقد جعلناه للمرأة إلاّ الميزان ; فإنّه من متاع الرجل فهو لك ، فقال (عليه السلام) لي : فعلى أيّ شيء هو اليوم؟ فقلت : رجع إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي أن جعل البيت للرجل .
ثمّ سألته (عليه السلام) عن ذلك فقلت : ما تقول أنت فيه؟ فقال : القول الذي أخبرتني : أنّك شهدته وإن كان قد رجع عنه ، فقلت : يكون المتاع للمرأة؟ فقال : أرأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟ فقلت : شاهدين ، فقال : لو سألت من بين لابتيها ـ يعني الجبلين ، ونحن يومئذ بمكّة ـ لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها ، فهي التي جاءت به ، وهذا المدّعي ، فإن زعم أنّه