ج1
ووضعت بوضع مستقلّ لنفس الحدث فقط من دون النسبة، فمادّة «ضارب»مثلاً هي «ض، ر، ب» وهذه المادّة وضعت لما نعبّر عنه في الفارسيّة بـ «كتك»،وهي بحروفها المرتّبة ومعناها موجودة في جميع مشتقّاتها، ولا هيئة لها حتّىيستحيل ورود هيئة اُخرى عليها، ألا ترى أنّا نفسّر قولنا: «ضَرَبَ، يَضْرِبُ،ضارِبٌ» بالفارسيّة بـ «كتك زد، كتك مىزند،كتك زننده» فمعنى المادّةوحروفها المرتّبة متحقّقة في هذه المشتقّات.
وقد اُورد على هذا بوجوه:
1ـ أنّ المادّة ـ خاليةً من كلّ هيئة ـ ليست بلفظ، فكيف يكون لها وضع معأنّ الوضع عبارة عن علقة بين اللفظ والمعنى؟!
وفيه: أنّ الغرض من وضع الموادّ ليس الإفادة الفعليّة كي يستلزم فعليّةإمكان التنطّق بها، بل الموادّ موضوعة بالوضع التهيّئي لأن تتلبّس بهيئةموضوعة، فيتحقّق الإفادة والاستفادة، ومثلها لا يجب أن يكون من مقولةاللفظ الذي يتكلّم به.
2ـ المشهور بين أهل الأدب أنّ اسم المصدر موضوع لنفس الحدث بلنسبة، فما الفرق بينه وبين المادّة؟
والجواب عنه: أنّ اسم المصدر وضع لعين المعنى الذي وضعت له المادّة، إلأنّ وضعها تهيّئي كما عرفت، ووضعه لأجل إمكان التنطّق بالمادّة عند الحاجةإلى إفادة معناها.
3ـ أنّ لازم ذلك هو دلالة المادّة على المعنى الذي وضعت له، وإن تحقّقت فيضمن هيئة غير موضوعة، مثل «ضُرْب» و«ضِرْب».
وفيه: أنّ وضع الموادّ تهيّئي للازدواج مع الهيئات الموضوعة، وبذلك يحصل
(صفحه436)
لها ضيق ذاتي لا مجال معه لتوهّم الدلالة في ضمن المهملات.
4ـ أنّ القول باستقلال كلّ من المادّة والهيئة في الوضع يستلزم دلالتهما علىمعنيين مستقلّين، وهو خلاف الضرورة، إذ لا يفهم من كلمة «ضارب» مثلإلاّ معنى واحد.
وفيه: ـ مضافاً إلى كونه وارداً على مذهب الكوفيّين والبصريّين أيضاً ـ أنّدلالة المادّة على معناها مندكّة في دلالة الهيئة، بحيث لا يفهم منها إلاّ معنىمندكّ في معنى الهيئة، وبالجملة: إنّ الواضع وإن لم يلاحظ أيّ هيئة في مقاموضع الموادّ، وأيّ مادّة في مقام وضع الهيئات، بل كلّ منهما مستقلّة في مقامالوضع، إلاّ أنّ المادّة لا تحصّل لها في مقام الاستعمال إلاّ بتحصّل هيئتها، وهيمركّبة معها تركيباً اتّحاديّاً، ودلالتها على المعنى أيضاً كذلك، فنسبة المادّة إلىالهيئة في هذا المقام كنسبة الهيولى إلى الصورة في الاتّحاد.
البحث حول دلالة(1) الفعل على الزمان
ثمّ إنّه قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان، حتّى أخذوالاقتران بها في تعريفه، وهو خطأ كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله .
برهان صاحب الكفاية لإثبات عدم دلالة الفعل على الزمان
واستدلّ عليه بعدم دلالة الأمر ولا النهي عليه، بل على إنشاء طلب الفعلأو الترك، غاية الأمر نفس الإنشاء بهما في الحال، كما هو الحال في الإخباربالماضي أو المستقبل أو بغيرهما كما لا يخفى.
- (1) اُريد بها الدلالة التضمّنيّة التي يكون فيها المدلول جزءً لمعنى الدالّ، لا الالتزاميّة التي يكون فيها خارجعنه لازماً له. منه مدّ ظلّه.
ج1
بل يمكن منع دلالة غيرهما من الأفعال على الزمان إلاّ بالإطلاق والإسنادإلى الزمانيّات، وإلاّ لزم القول بالمجاز والتجريد عند الإسناد إلى غيرها مننفس الزمان والمجرّدات.
نعم، لا يبعد أن يكون لكلّ من الماضي والمضارع بحسب المعنى خصوصيّةاُخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي، وفيالحال أو الاستقبال في المضارع فيما كان الفاعل من الزمانيّات(1)، إنتهى كلامه.
توضيح: أراد رحمهالله تحقّق تلك الخصوصيّة في جميع موارد استعمال الماضيوالمضارع، حتّى فيما إذا اُسند إلى الزمان والمجرّدات، إلاّ أنّها لا توجب الدلالةعلى وقوع النسبة في الزمان إلاّ إذا اُسند إلى الزمانيّات.
وهو رحمهالله لم يعيّن تلك الخصوصيّة، لكن يناسب أن تكون في الماضي«التحقّق» وفي المضارع «الترقّب» فيكون معنى قولنا: «مضى الزمان» و«علماللّه» و«علم زيد» تحقَّق مضيّ الزمان، وتحقَّق علم اللّه، وتَحقَّق علم زيد،فالخصوصيّة موجودة في الجميع، لكنّها لا توجب الدلالة على وقوع النسبة فيالزمان الماضي إلاّ في الأخير، وكذا إذا قلنا: «يمضي الزمان» و«يريد اللّه»و«يعلم زيد» يكون معناها يترقّب مضيّ الزمان وإرادة اللّه وعلم زيد، لكنّهلا توجب الدلالة على وقوع النسبة في الحال أو الاستقبال إلاّ في الأخير.
تكميل: مادّة الفعل لا تدلّ على الزمان، وإلاّ لكان سائر المشتقّات أيضدالّة عليه، وأمّا هيئته(2) فالتحقيق أنّها وضعت لمعنى حرفي، وهو ارتباط المبدء
- (2) وهي المحور في الأفعال، فإنّ فعليّة الفعل بهيئته، كما أنّ شيئيّة الشيء بصورته في الخارجيّات.منه مدّ ظلّه.
(صفحه438)
بالفاعل، إذ كما أنّ «في» مثلاً في قولنا: «زيد في الدار» تدلّ على الظرفيّة، وهيأمر حقيقي متعلّق بطرفيه، وهما «زيد» و«الدار» فكذلك إذا قلنا: «ضَرَبَزيد» أو «يضرب زيد» تدلّ هيئة الفعل على الارتباط الصدوري بين الضربوبين زيد، لكن يدلّ الماضي على تحقّق هذا الارتباط والمضارع على ترقّبه،فأين دلالة الهيئة على الزمان الذي هو معنى اسمي؟!
اشتراك هيئة الماضي بين الفعل المتعدّي واللازم
ثمّ إنّ الحقّ ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام «أعلى اللّه مقامه»من اشتراك هيئة الماضي(1) بين الفعل المتعدّي واللازم اشتراكاً لفظيّاً، إذالارتباط في الأوّل صدوري وفي الثاني حلولي، مثل «ضرب زيد» أي صدرالضرب منه، و«ابيضّ الجسم» أي حلّ البياض فيه، فهيئة الماضي وضعتتارةً للارتباط الصدوري واُخرى للارتباط الحلولي.
إن قلت: يمكن أن يقال بوضعها للجامع بينهما وهو نفس الارتباط.
قلت: لا، فإنّ الارتباط بدون قيد الصدور والحلول يعمّ الارتباط الوقوعيالذي في الفعل المجهول أيضاً.
هل يشترك المضارع بين الحال والاستقبال أم لا؟
ثمّ إنّه كثيراً ما يطلق الفعل المضارع ويراد به الحال، كما إذا سألك السائلعن أنّك هل تعلم حكم كذا؟ فأجبت بقولك: «نعم أعلمه» فإنّه لا إشكال في
- (1) لا ينحصر كلام الإمام رحمهالله بالماضي، فإنّه بعد ذكر أنّ الزمان ليس جزءً لمدلول الماضي والمضارع، بل منلوازم معناهما، قال: نعم، لابدّ من الالتزام بتعدّد الوضع في المتعدّي واللازم، لأنّ قيام المبدء بالذات فيالأوّل بالصدور وفي الثاني بالحلول. تهذيب الاُصول 1: 153. م ح ـ ى.
ج1
كون المضارع مستعملاً في السؤال والجواب في الحال.
بل ذهب المحقّق النائيني رحمهالله إلى أنّه وضع للحال واستعماله في الاستقبال مجازبمعونة القرينة كالسين وسوف، وما اشتهر من أنّه بمعنى الحال والاستقبال منالاشتباهات، فإنّ ظهوره الأوّلي هو التلبّس بالحال، كما هو الظاهر من قولهتعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً»(1) فإنّ الظاهر منه أنّهم حال نزولالآية كانوا يقولون: لست مرسلاً(2).
وفيه: أنّه كثيراً ما يستعمل في الاستقبال أيضاً من دون قرينة المجاز،واستعماله في الآية في الحال لا يدلّ على كونه مجازاً في الاستقبال، إذ غاية ميقتضيه أنّه حقيقة في الحال، وأمّا أنّه مجاز في الاستقبال فلا.
وقال المحقّق الخراساني رحمهالله بكونه مشتركاً معنويّاً بينهما، وظاهر كلامهاعتراف النحويّين بذلك أيضاً، وجعل هذا مؤيّداً لعدم دلالة الفعل على الزمان،فراجع تفصيل كلامه في الكفاية(3).
وذهب سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله على ما في تقريرات بحثه بقلم بعضالأجلّة إلى أنّه مشترك لفظي بينهما، إلاّ أنّ الوضع بالنسبة إلى الاستقبال تعيينيوبالنسبة إلى الحال تعيّني، فالأوّل مقدّم على الثاني(4).
ولايبعد عنديأنّهما كانافيمرتبة واحدةليس بينهماتقدّموتأخّر أصلاً، فوضعالمضارع للارتباط الصدوري أو الحلولي الحالي تارةً والاستقبالي اُخرى.
وكيف كان، فلا ثمرة لهذا النزاع فلا نطيل الكلام فيه.
- (2) فوائد الاُصول 1 و 2: 102.
- (4) تهذيب الاُصول 1: 154.