ج1
والجواب: أنّه لا منافاة بين كون القطع طريقاً إلى متعلّقه وبين كونهموضوعاً بالنسبة إلى هذا الحكم، أعني وجوب التصدّق.
والتبيّن في الآية المبحوث عنها أيضاً من هذا القبيل.
وبعبارة اُخرى: مقام الدخل في الحكم غير مقام الاستعمال، فالتبيّن علىالمشهور مأخوذ بنحو الطريقيّة بالنسبة إلى دخله في الحكم، وملحوظ مستقلفي مقام الاستعمال.
هذا بالنسبة إلى الفقرة الاُولى من كلامه.
وأمّا الفقرة الثانية: فيرد عليها أنّ المعاني الحرفيّة وإن كانت مقصودةبالذات إلاّ أنّها ليست ملحوظة بالاستقلال، فإنّا حينما نقول: «جاء زيد مععمرو» فلا نتمكّن من ملاحظة المعيّة والمقارنة بين مجيء زيد ومجيء عمروإلاّ بعد لحاظ نفس المجيئين.
وبالجملة: وقع الخلط بين المقصود بالذات والملحوظ بالذات، والمحقّقالخراساني رحمهالله يعترف بأنّ المعاني الحرفيّة مقصودة بالإفادة، لكنّها ملحوظة فيمقام التفهيم والاستعمال بتبع لحاظ طرفيها.
3ـ القول بعدم وضع الحروف لمعنى
قيل: إنّ الحروف لم توضع لمعنى، بل هي علامة على كيفيّة إرادةمدخولاتها، نظير حركات الإعراب التي لم توضع لمعنى، وإنّما تدلّ على إرادةخصوصيّة من خصوصيّات مدخولها من الفاعليّة والمفعوليّة ونحوهما، فكمأنّ كلّ واحد من حركات الإعراب يفيد خصوصيّة متعلّقة بمدخوله، فإنّ«الفتحة» تفيد خصوصيّة في مدخولها، و«الكسرة» تفيد خصوصيّة اُخرىفيه، و«الضمّة» تفيد خصوصيّة ثالثة فيه، فكذلك كلّ واحد من الحروف، فإنّ
(صفحه174)
كلمة «في» تفيد خصوصيّة في مدخولها غير ما تفيده كلمة «على» منالخصوصيّة، وهكذا، من دون أن تكون لها معانٍ مخصوصة قد وضعت بإزائها.
وفيه أوّلاً: أنّ قياس الحروف بالحركات الإعرابيّة باطل، ضرورة أنّاللغويّين كما ذكروا معاني للأسماء كذلك ذكروا معاني للحروف أيضاً، وهذيرشدنا إلى تساويهما في تعلّق الوضع بهما.
ويؤيّده أنّ للحروف ما يحاذيها في سائر اللغات، ألا ترى أنّا نقول في معنى«سرت من البصرة» بالفارسيّة: «سير كردم از بصره» فكلمة «از» قامتمقام كلمة «من»، بخلاف الحركات الإعرابيّة، فإنّا نقول في معنى «جاء زيد»:«زيد آمد» فلم تقم كلمةٌ مقام الإعراب كما لا يخفى(1).
وثانياً: يمكن المناقشة في المقيس عليه أيضاً، فإنّ أماريّة الحركات الإعرابيّةلخصوصيّات مدخولاتها لابدّ لها من منشأ، ضرورة أنّها ليست أمراً ذاتيّاً،فالذي جعل الرفع علامةً للفاعليّة، والنصب أمارةً للمفعوليّة وهكذا من هو؟هل هو إلاّ الواضع؟!
فالقول بأنّ الحركات الإعرابيّة لم توضع لمعنى فاسد أيضاً.
وثالثاً: أنّه لا ريب في أنّ المتكلِّم إذا قال: «سرت من البصرة» أراد أن يبيّنابتداء السير بنفس هذه العبارة، ولا شبهة في عدم صلاحيّة قوله: «سرت»لإفادة هذا المعنى، لأنّه لا يدلّ إلاّ على إضافة السير إلى المخبر.
وكذلك «البصرة» فإنّا لو قلنا بدلالتها على الابتداء بعد دخول كلمة «من»عليها لاستلزم استعمالها في غير ما وضعت له.
- (1) إنّ لبعض الحركات الإعرابيّة ما يحازيها من المعنى في الفارسيّة، كقولنا: «ضربت زيداً» فإنّا نقول فيمعناه: «زدم زيد را» فكلمة «را» قامت مقام الإعراب. م ح ـ ى.
ج1
فلم يبق لفظ صالح لإفادة «الابتداء» إلاّ كلمة «من».
والحاصل: أنّه لا يصحّ القول بأنّ الحروف لم توضع لمعنى، بل لابدّ منالقول بتحقّق الوضع فيها، والبحث عمّا وضعت له.
4ـ رأي المحقّق النائيني رحمهالله في الحروف
ذهب المحقّق النائيني رحمهالله إلى أنّ المعاني الحرفيّة والاسميّة متباينتان بالذاتوالحقيقة، فإنّ المفاهيم الاسميّة بأجمعها مفاهيم إخطاريّة ومتقرّرة في عالمالمفهوميّة ومستقلّة بحدّ ذاتها وهويّتها في ذلك العالم، والمعاني الحرفيّة بأجمعهمعانٍ إيجاديّة في الكلام، ولا تقرّر لها في عالم المفهوميّة، ولا استقلال بذاتهوحقيقتها.
وبيان ذلك: أنّ الموجودات في عالم الذهن، كالموجودات في عالم العين،فكما أنّ الموجودات في عالم العين على نوعين:
أحدهما: ما يكون له وجود مستقلّ بحدّ ذاته في ذلك العالم، كالجواهربأنواعها من النفس والعقل والصورة والمادّة والجسم، ولذا قالوا: إنّ وجودالجوهر في نفسه لنفسه، يعني لا يحتاج إلى موضوع محقّق في الخارج.
وثانيهما: ما يكون له وجود غير مستقلّ كذلك في هذا العالم، بل هو متقوّمبالموضوع، كالمقولات التسع العرضيّة، فإنّ وجوداتها متقوّمة بموضوعاتها، فليعقل تحقّق عرض ما بدون موضوع يتقوّم به، ولذا قالوا: إنّ وجود العرض فينفسه عين وجوده لموضوعه.
فكذلك الموجودات في عالم الذهن على نوعين:
أحدهما: ما يكون له استقلال بالوجود في عالم المفهوميّة والذهن، كمفاهيمالأسماء بجواهرها وأعراضها واعتباريّاتها وانتزاعيّاتها، فإنّ مثل مفهوم
(صفحه176)
الإنسان والسواد والبياض وغيرها من المفاهيم مستقلّة ذاتاً، فإنّها تحضر فيالذهن بلا حاجة إلى أيّة معونة خارجيّة، سواء كانت في ضمن تركيب كلاميأم لم تكن، فظهر أنّ حال المفاهيم الإسميّة في عالم المفهوم والذهن حالالجواهر في عالم العين والخارج.
وثانيهما: ما لا استقلال له في ذلك العالم، بل هو متقوّم بالغير، كمعانيالحروف، فإنّها بحدّ ذاتها وأنفسها متقوّمة بالغير ومتدلّية بها، بحيث لاستقلال لها في أيّ وعاء من الأوعية التي فرض وجودها فيه، لنقصان فيذاتها، فعدم الاستقلاليّة من ناحية ذلك النقصان لا من ناحية اللحاظ فقط،فلذا لا تخطر في الذهن عند التكلّم بها وحدها، أي من دون التكلّم بمتعلّقاتها،فلو اُطلق كلمة «في» وحدها، أي من دون ذكرها في ضمن تركيب كلامي فليخطر منها شيء في الذهن.
فتبيّن أنّ حال المعاني الحرفيّة في عالم المفهوم، حال المقولات التسعالعرضيّة في عالم العين.
واتّضح من ضوء هذا البيان أنّ المفاهيم الاسميّة لها نحو تقرّر وثبوت فيوعاء العقل الذي هو وعاء الإدراك، سواء كان هناك لافظ ومستعمل أو لميكن، وسواء كان واضع أو لم يكن، فيكون استعمال ألفاظها موجباً لإخطارتلك المعاني في الذهن، سواء كانت مفردة أم في ضمن تركيب كلامي.
وهذا بخلاف معاني الحروف، فإنّها إيجاديّة، بمعنى أنّ استعمال ألفاظهموجب لإيجاد معانيها من دون أن يكون لمعانيها نحو تقرّر وثبوت مع قطعالنظر عن الاستعمال، بل توجد في موطن الاستعمال، وذلك ككاف الخطابوياء النداء، وما شابه ذلك، بداهة أنّه لو لا قولك «يا زيد» و«إيّاك» لما كانهناك نداء ولا خطاب، ولا يكاد يوجد معنى ياء النداء وكاف الخطاب إلاّ
ج1
بالاستعمال وقولك «يا زيد» و«إيّاك»، فنداء زيد وخطاب عمرو إنّما يوجدويتحقّق بنفس القول، فتكون ياء النداء وكاف الخطاب موجدة لمعنى لم يكنله سبق تحقّق، بل يوجد بنفس الاستعمال، لوضوح أنّه لا يكاد توجد حقيقةالمخاطبة والنداء بدون ذلك، فواقعيّة هذا المعنى وهويّته تتوقّف على الاستعمال،وبه يكون قوامه.
وهذا بخلاف معنى «زيد»، فإنّ له نحو تقرّر وثبوت في وعاء التصوّر معقطع النظر عن الاستعمال، ومن هنا صار استعماله موجباً لإخطار معناه،بخلاف معنى ياء النداء وكاف الخطاب، فإنّه ليس له نحو تقرّر وثبوت مع قطعالنظر عن الاستعمال.
نعم، مفهوم النداء ومفهوم الخطاب له تقرّر في وعاء العقل، إلاّ أنّه لم توضعلفظة «ياء» وكاف الخطاب بإزائه، بل الموضوع بإزاء ذلك المفهوم هو لفظة«النداء» ولفظة «الخطاب»، لا لفظة «يا» وكاف الخطاب، بل هما وضعتلإيجاد النداء والخطاب، وهذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه.
إنّما الإشكال في أنّ جميع معاني الحروف تكون إيجاديّة أو لا؟
ظاهر كلام المحقّق صاحب الحاشية(1): هو اختصاص ذلك ببعض الحروف،وكان منشأ توهّم الاختصاص، هو تخيّل أنّ مثل «من» و«إلى» و«على»و«في» وغير ذلك من الحروف تكون معانيها إخطاريّة، حيث كان استعمالهموجباً لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء والانتهاء والاستعلاءوالظرفيّة، مثلاً في قولك: «سرت من البصرة إلى الكوفة» تكون لفظة «من»و«إلى» حاكية عمّا وقع في الخارج، كحكاية لفظ «زيد» عن معناه.
- (1) هداية المسترشدين في شرح معالم الدِّين 1: 145.