قال المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية: ورد جواباً عن السؤال عن تكرارالحجّ بعد أمره به، فقد روي أنّه خطب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فقال: «إنّ اللّه كتبعليكم الحجّ، فقام عكاشة، ويروى سراقة بن مالك، فقال: في كلّ عاميارسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال: ويحك، وميؤمنك أن أقول: نعم، واللّه لو قلت: نعم، لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولوتركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهمواختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكمعن شيء فاجتنبوه»(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
وعلى أيّ حال فلابدّ من ملاحظة دلالتها تارةً: على فرض ورودهمستقلّة، واُخرى: على فرض صدورها عقيب القصّة.
فأقول: لو لم ترتبط بالقصّة ففيها وجوه نذكرها ونبيّن ما هو الظاهر منها.
توضيح ذلك: أنّ كلمة «شيء» في قوله صلىاللهعليهوآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ماستطعتم» هل هي بمعنى «شيء له أفراد» أو بمعنى «شيء له أجزاء» أو تعمّكليهما؟
أفراد وممّا له أجزاء يصدق عليه لفظ «شيء» فلا مانع من شموله لهما من جهةمدلوله اللغوي.
وأيضاً كلمة «من» في قوله صلىاللهعليهوآله : «فأتوا منه» هل هي للتبعيض أو للتبيين أوبمعنى الباء؟
الظاهر أنّها للتبعيض، لأنّ كونها بمعنى الباء يستلزم أن تكون زائدة(1)، ولمعنى لكونها بمعنى التبيين أيضاً، لأنّ البيان لا يؤتى به إلاّ لإيضاح أمر مجهول،وليس في الحديث أمر مجهول.
وأيضاً كلمة «ما» في قوله صلىاللهعليهوآله : «ما استطعتم» هل هي موصولة أو مصدريّةزمانيّة؟
الظاهر أنّها موصولة، لأنّه الأصل في معناها والمتعارف من موارد استعمالها،على أنّ كونها مصدريّة توقيتيّة لا يناسب التبعيض المستفاد من كلمة «من» إذلا يناسب أن يأمرنا بإتيان بعض أفراد المأمور به أو أجزائه في زمناستطاعتنا وقدرتنا، بل المناسب هو الأمر بإتيان بعض أفراده أو أجزائه بقدرالاستطاعة، وهو مقتضى كون «ما» موصولة.
إشكال وجواب
ثمّ إنّه أورد سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» شبهة وأجاب عنها:
أمّا الشبهة: فهي أنّ إرادة العموم من كلمة «شيء» لا تلائم إرادة التبعيضمن كلمة «من» لأنّها ظاهرة في كون مدخولها مركّباً ذا أجزاء وأبعاض، لا ذأفراد ومصاديق، إذ يصدق على الجزء أنّه بعض المركّب، ولا يصدق على الفرد
- (1) ولا معنى لكونها بمعنى الباء مع زيادتها أوّلاً، ويشترط في زيادتها تقدّم نفي أو نهي أو استفهام ودخولهعلى النكرة ثانياً. م ح ـ ى.
(صفحه308)
أنّه بعض الطبيعي، فإنّه نفسه لا بعضه، فيكون معنى الرواية «إذا أمرتكمبشيء مركّب فأتوا من أجزائه المقدار الذي استطعتم».
وأمّا الجواب: فهو أنّ كون كلمة «من» تبعيضيّة ليس بمعنى كونها مرادفةللفظ «بعض» كي يقال: لا يصدق على الفرد أنّه بعض الطبيعي، فإنّه باطلبالضرورة، بل هي مستعملة في معناها الحرفي الذي يعبّر عنه بالفارسيّة بكلمة«از» فلفظة «من» ليست مرادفة لـ «البعض» بل يكون معناها أنّ ما بعدهمقتطع ممّا قبلها بنحو من الاقتطاع، أو يكون ما قبلها مخزناً لما بعدها كالطبيعةبالنسبة إلى الأفراد عرفاً، وهو حاصل في المقام، ألا ترى أنّه لو قال القائل:«إذا أمرتكم بطبيعة الصلاة فأتوا منها كلّ فرد يكون في استطاعتكم» لكانقولاً صحيحاً عند العرف من دون استلزامه تجوّزاً.
فكون «من» تبعيضيّة ليس مانعاً من حمل الرواية على الأعمّ(1).
هذا حاصل كلام الإمام«مدّ ظلّه» إشكالاً وجواباً.
وما أفاده في مقام الجواب عن هذه الشبهة صحيح متين.
لكن هاهنا إشكال آخر، وهو أنّ الرواية لو كانت أعمّ من الكلّ والكلّيلكان معناها بحسب الكلّي: «إذا أمرتكم بطبيعة كلّيّة فأتوا من مصاديقهالمقدار الذي استطعتم» مع أنّه ليس في الشرع طبيعة وجب علينا إتيانأفرادها بمقدار استطاعتنا.
فكلمة «شيء» وإن كانت ظاهرة في العموم مع قطع النظر عن سائر ألفاظالرواية، إلاّ أنّها بملاحظة كون «من» تبعيضيّة و«ما» موصولة تختصّ بالمأموربه المركّب فقط، ولا تعمّ الطبيعة الكلّيّة، لئلاّ يرد هذا الإشكال.
وعلى هذا تكون الرواية دالّةً على ما اشتهر بين المتأخّرين، من لزوم
- (1) أنوار الهداية 2: 386، وتهذيب الاُصول 3: 404.