ج5
إشكال في نفي ماهيّة الضرر حقيقةً.
وجعله الشيخ الأعظم أردء الاحتمالات، وأجاب عنه بأنّ الضرر ينعدمبنفس التدارك خارجاً ـ الذي هو فعل الغاصب والبائع في المثالين ـ لا بالحكمبه من قبل الشارع، والحكم به لا يستلزمه خارجاً، إذ يمكن أن يخالفه منعليه التدارك، فكيف يصحّ نفي هويّة الضرر غير المتدارك حقيقةً مع كونهموجوداً تكويناً(1)؟
كلام شيخ الشريعة الاصفهاني في حديث «لا ضرر»
الثاني: ما اختاره شيخ الشريعة الاصفهاني: من أنّ المراد به النهي عنالضرر، أي «لا يجوز أن يضرّ رجلٌ رجلاً» وهو الذي لا تسبق أذهان العرفالفارغة عن الشبهات العلميّة إلاّ إليه.
ويؤيّده أوّلاً: أنّ إرادة النهي من هذا التركيب كثيرة في الآيات والروايات:
منها: قوله تعالى: «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ»(2). ومنهقوله صلىاللهعليهوآله : «لا سبق(3) إلاّ في خفّ(4) أو حافر أو نصل»(5).
ومنها: قوله صلىاللهعليهوآله : «لا غشّ بين المسلمين»(6).
إلى غير ذلك من الآيات والروايات.
وثانياً: أنّ الحديث مذيّل بـ «على مؤمن» فيما نقل مرسلاً عن زرارة، ول
- (1) رسالة نفي الضرر ـ المطبوعة في أواخر المكاسب بالطبع الحجري ـ : 372.
- (3) يمكن أن يكون بسكون الباء، ويمكن أن يكون بفتحها، والأوّل بمعنى المسابقة، والثاني بمعنى المالالذي يجعل لها. منه مدّ ظلّه.
- (4) الخفّ: الإبل والفيلة، والحافر: الخيل والبغال والحمير، والنصل: السيف والسهم والحراب، و«الحِراب»ـ جمع الحَرْبة ـ : آلة للحرب من الحديد قصيرة محدّدة، وهي دون الرمح. م ح ـ ى.
(5) وسائل الشيعة 19: 252 و 253، كتاب السبق والرماية، الباب 3، الحديث 1 و 2.
- (6) سنن الدارمي 2: 323، كتاب البيوع، الباب 10، باب النهي عن الغشّ، الحديث 2541.
(صفحه430)
يناسبه نفي الأحكام الضرريّة، كوجوب الوضوء الضرري ولزوم البيع الغبني،لأنّ نفي الأحكام الضرريّة لا يختصّ بالمؤمن، فلابدّ من القول بكونه للنهي.
وثالثاً: أنّ قوله صلىاللهعليهوآله في قضيّة سمرة: «إنّك رجلٌ مضارّ ولا ضرر ولا ضرار»بمنزلة الصغرى والكبرى، فلو اُريد التحريم كان معناه «إنّك رجل مضارّوالمضارّة حرام» وهو المناسب لتلك الصغرى، ولو اُريد نفي الحكم الضرريكان معناه «إنّك رجلٌ مضارّ والحكم الموجب للضرر منفي، أو الحكم المجعولمنفيّ في صورة الضرر» ولا أظنّ بالأذهان المستقيمة ارتضائه.
ورابعاً: أنّ قول أئمّة اللغة ومهرة أهل اللسان(1) حول الحديث موافق للنهيالذي ذهبنا إليه.
ثمّ قال: وليعلم أنّ المدّعى أنّ حديث الضرر يراد به إفادة النهي عنه، سواءكان باستعمال التركيب في النهي ابتداءً، أو أنّه استعمل في معناه الحقيقي، وهوالنفي، ولكن لينتقل منه إلى إرادة النهي ـ إلى أن قال ـ : فالمدّعى أنّ الحديثيراد به إفادة النهي، لا نفي الحكم الضرري، ولا نفي الحكم المجعولللموضوعات عنها، ولا يتفاوت في هذا المدّعى أنّ استعمال النفي في النهي بأيّوجه، وربما كانت دعوى الاستعمال في معنى النفي مقدّمةً للانتقال إلى طلبالترك أدخل في إثبات المدّعى، حيث لا يتّجه حينئذٍ ما يستشكل في المعنىالأوّل من أنّه تجوّز لا يصار إليه(2).
هذا حاصل ما أفاده شيخ الشريعة الاصفهاني رحمهالله .
والحديث على ما ذهب إليه صدر لجعل حكم من الأحكام الأوّليّة، وهوتحريم الإضرار بالغير، فلا يكون قاعدة فقهيّة وحكماً ثانويّاً ناظر
- (1) مثل «لسان العرب» و«مجمع البحرين» و«النهاية الأثيريّة». منه مدّ ظلّه توضيحاً لكلام شيخ الشريعة رحمهالله .
- (2) قاعدة لا ضرر ـ لشيخ الشريعة الاصفهاني ـ : 24 ـ 28.
ج5
إلىالأحكام الأوّليّة المستلزمة للضرر أحياناً.
والإنصاف أنّ ماأفاده رحمهالله أرجحالاحتمالات المتقدّمة وأقرب إلى ما سنحقّقه.
نقد كلام شيخ الشريعة
ولكن مع ذلك يرد عليه أوّلاً: أنّ استعمال هذا التركيب في النهيوإن كان كثيراً، إلاّ أنّ استعماله في النفي لم يكن قليلاً، بل أكثرمنه(1)، فاستعماله وإرادة النهي مع كونه شائعاً ليس بحدّ يكون ظاهراً فيه.
وثانياً: كما أنّ نفي الأحكام الضرريّة لا يختصّ بالمؤمن كذلك حرمةالإضرار بالغير أيضاً لا تختصّ به، إذ لا يجوز الإضرار بالكافر الذمّي أيضاً،فلا يكون تذييل الحديث بقيد «على مؤمن» دليلاً على إرادة النهي عن الضرر.
وثالثاً: إن اُريد بهذا المعنى أنّ كلمة «لا» لاء النهي، ولكنّها دخلت علىالاسم فهو واضح البطلان، لأنّ النهي لا يتعلّق إلاّ بالفعل، وإن اُريد به أنّها لاءالنفي ولكن اُريد بها النهي فلا يمكن بنحو الحقيقة، إذ كون استعمال لاء النفي فيالنهي حقيقةً غير معقول، وأمّا كونه بنحو المجاز فلا يصار إليه في مثل هذالحديث كما اعترف به في آخر كلامه.
نظريّة الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في المسألة
وذهب سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» إلى أنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولضرار» يفيد النهي عن الضرر، لكن لا بمعنى كونه نهياً من قبل اللّه وإنّما أخبربه الرسول صلىاللهعليهوآله كما اختاره شيخ الشريعة رحمهالله .
بل بمعنى النهي السلطاني والحكم المولوي، وقد صدر عنه صلىاللهعليهوآله بما أنّه سائس
- (1) وأورد الإمام الخميني«مدّ ظلّه» بعض موارده في كتاب الرسائل، قاعدة «لا ضرر»: 48، فراجع. م ح ـ ى.
(صفحه432)
الملّة وقائدها ورئيس الملّة وأميرها.
وتوضيح ذلك يحتاج إلى ذكر مقدّمتين:
شؤون رسول اللّه صلىاللهعليهوآله
الاُولى: أنّ لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله شؤوناً:
أحدها: النبوّة والرسالة، أي تبليغ الأحكام الإلهيّة من الأحكام الوضعيّةوالتكليفيّة، حتّى أرش الخدش.
وثانيها: مقام السلطنة والرياسة والسياسة، لأنّه صلىاللهعليهوآله سلطان من قبل اللّهتعالى، والاُمّة رعيّته، وهو سائس البلاد ورئيس العباد، وهذا المقام غير مقامالرسالة والتبليغ، فإنّه بما أنّه مبلِّغ ورسول من اللّه ليس له أمرٌ ولا نهي، ولوأمر أو نهى في أحكام اللّه تعالى لا يكون إلاّ إرشاداً إلى أمر اللّه ونهيه، ولوخالف المكلّف لم يكن مخالفته مخالفة رسول اللّه، بل مخالفة اللّه تعالى، لأنّرسول اللّه صلىاللهعليهوآله ليس بالنسبة إلى أوامر اللّه ونواهيه ذا أمر ونهي، بل هو مبلِّغورسول ومخبر عنه تعالى، كما أنّ أوامر الأئمّة عليهمالسلام ونواهيهم في أحكام اللّهكذلك، وليست أوامر النبيّ والأئمّة «عليه وعليهم الصلاة والسلام» من هذهالجهة إلاّ كأوامر الفقهاء مقلّديهم، فقول الفقيه لمقلّده: «اغسل ثوبك عن أبوالما لا يؤكل لحمه» كقول النبيّ والأئمّة عليهمالسلام من حيث إنّه إرشاد إلىالحكمالإلهي، وليس مخالفة هذا الأمر إلاّ مخالفة اللّه، لا مخالفة الرسول والأئمّة والفقيه.
وأمّا إذا أمر رسول اللّه أو نهى بما أنّه سلطان وسائس يجب إطاعة أمره بمأنّه أمره، فلو أمر سريّة أن يذهبوا إلى قطر من الأقطار تجب طاعته عليهم بمأنّه سلطان وحاكم، فإنّ أوامره من هذه الجهة كأوامر اللّه واجب الإطاعة،
ج5
وليس مثل هذه الأوامر الصادرة عنه أو عن الأئمّة إرشاداً إلى حكم اللّه، بلأوامر مستقلّة منهم تجب طاعتها.
والدليل على كون الرسول صلىاللهعليهوآله سلطاناً وحاكماً على العباد وأنّه تجب إطاعتهعليهم، هو الروايات، بل الآيات:
منها: قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِيالاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(1).
فإنّ الأمر في «أطيعوا اللّه» وإن كان إرشاداً إلى حكم العقل(2) ـ وإلاّ لزمتعدّد استحقاق المثوبة في صورة إطاعة الأمر بالصلاة مثلاً، والعقوبة في صورةعصيانه ـ إلاّ أنّ الأمر في «أطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم» مولوي صادرلإيجاب إطاعة الرسول واُولي الأمر في الأوامر والنواهي الصادرة عنهم عليهمالسلام مستقلّةً.
فمن لم يصلّ عوقب يوم القيامة على مخالفة اللّه تعالى، ومَن خالف أمرالرسول صلىاللهعليهوآله بحفر الخندق مثلاً عوقب على مخالفته صلىاللهعليهوآله وإن كان وجوب إطاعتهلأجل قوله تعالى: «أَطِيعُوا الرَّسُولَ».
والشاهد على كون الأمر بإطاعة اللّه إرشاديّاً والأمر بإطاعة الرسولمولويّاً تكرار «أطيعوا» في الآية، فلو كانا بمعنى واحد ينبغي أن يقال: «أطيعواللّه والرسول واُولي الأمر منكم».
ومنها: قوله تعالى: «النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(3).
فإنّه عزّ وجلّ جعل الولاية لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله بهذه الآية.
- (2) وحكم العقل أيضاً إرشادي، لأنّه يحكم بلزوم إطاعة اللّه لأنّ المطيع يستحقّ المثوبة والعاصي يستحقّالعقوبة. منه مدّ ظلّه.