استشكل الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله فيه بدعوى تغيّر الموضوع، لأنّالثابت سابقا ثبوت التخيير لمن لم يختر، فإثباته لمن اختار إثبات للحكم فيغير موضعه الأوّل(1).
أقول: تارةً: يفرض كون الموضوع في أدلّة التخيير هو ذات المكلّف إذا لميعلم الحقّ، كما هو مفاد رواية ابن الجهم، فإنّ ظاهرها أنّ الحكم بالتوسعةلذات المكلّف، وعدم العلم بالحقّ واسطة لثبوت الحكم له، واُخرى: كونه غيرالعالم بالحقّ بوصفه العنواني، وثالثةً: كونه عنوان المتحيّر في وظيفته، ورابعةً:كونه عنوان من لم يختر لأحدهما(2) كما قال الشيخ رحمهالله .
والتحقيق جريان الاستصحاب في جميع الصور، أمّا في الصورتين الاُوليينفواضح، لبقاء الموضوع فيهما قطعا، أمّا إذا كان ذات المكلّف ـ كما هو الحقّ فمعلوم، وأمّا إذا كان عنوان «غير العالم بأنّ أيّهما حقّ» فلأنّ الأخذ بأحدهما ليجعله عالما بحقّيّة أحدهما.
وأمّا في الصورتين الأخيرتين فلأنّ عنوان «المتحيّر» أو «الذي لم يختر»وإن كانا بحسب المفهوم الكلّي مخالفا لعنوان مقابلهما(3)، لكن مصداقهما إذوجدا في الخارج وصدق عليهما العنوانان يثبت لهما الحكم، فإذا زال العنوانبقي الموضوع قطعا، لأنّ المكلّف الموجود في الخارج إذا زال عنه عنوان
«المتحيّر» أو عنوان «من لم يختر لأحدهما» لا ينقلب عمّا هو عليه عرفا،فيكون إثبات حكم التخيير له بالاستصحاب إبقاء للحكم السابق، لا إسراءمن موضوع إلى موضوع آخر.
وبعبارة اُخرى: الموضوع في القضيّة المتيقّنة والمشكوكة هو المكلّفالخارجي، لا العنوان الكلّي المأخوذ في الأخبار، فيتّحد القضيّتان، لأنّا نقول:هذا المكلّف الموجود في الخارج كان مخيّرا، والآن نشكّ في بقاء تخييره،فيستصحب.
نعم، عنوان «التحيّر» و «عدم الاختيار» كان سببا لثبوت الحكم في القضيّةالمتيقّنة، كما أنّ زوالهما سبب لتحقّق الشكّ في بقاء الحكم، وهذا الشكّ ناشٍعن الشكّ في أنّ التحيّر وعدم الاختيار هل هما مؤثّران في حدوث الحكمفقط أو في حدوثه وبقائه، فيستصحب التخيير ويكشف عن كونهما مؤثّرينحدوثا فقط.
كما أنّ الماء إذا زال تغيّره من قبل نفسه، فشككنا في بقاء نجاسته ـ وكانهذا الشكّ ناشئا عن الشكّ في أنّ التغيّر هل كان مؤثّرا في حدوث الحكمبالنجاسة فقط أو فيه وفي البقاء ـ يستصحب النجاسة ويكشف عن كونالتغيّر مؤثّرا حدوثا فقط.
فالحاصل: أنّ استصحاب التخيير جارٍ على جميع الصور الأربع، لاتّحادالقضيّة المتيقّنة مع المشكوكة.
فالتخيير في المقام استمراري، لإطلاق أدلّته، وعلى فرض عدم تحقّقالإطلاق، لأجل الاستصحاب.
عدم شمول الأخبار العلاجيّة لاختلاف النسخ
ج6
التنبيه الرابع: قد عرفت أنّه ورد في الخبر: «يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقةبحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ»(1).
لكنّ الظاهر عدم كون التعدّد في الراوي دخيلاً في الموضوع، كما أنّالرجوليّة لا دخل لها فيه، بل تمام الموضوع وجود الخبرين المتعارضين، سواءرواهما رجلان أو رجل واحد.
والشاهد على هذا أنّ أخبار التخيير وردت في مورد حكم العقلاءبالتساقط، ولا ريب في أنّ العقلاء كما يحكمون بالتساقط في مورد تعدّد الراويكذلك يحكمون به في مورد وحدته.
والتعبير بـ «يجيئنا الرجلان» إنّما هو لأنّ الغالب في الخبرين المتعارضينكون الراوي متعدّدا.
فعلى هذا كما يشمل أخبار التخيير الخبرين المتعارضين الممتازين في جميعسلسلة السند فكذلك يشمل الخبرين الذين كان أحد رواتهما أو جميعهممتّحدا، كما إذا حدّثنا الكليني مثلاً عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد،عن حريز، عن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليهالسلام أنّه قال: «تجب صلاة الجمعة»وحدّثنا الكليني أيضاً أو غيره بهذا السند أو بسند آخر عن زرارة، عن أبيعبد اللّه عليهالسلام أنّه قال: «لا تجب صلاة الجمعة».
نعم، لو كان الاختلاف لأجل اشتباه الناسخين والطابعين فلا مجال للتخيير،لعدم صدق الخبرين المتعارضين هاهنا، فإنّه خبر واحد وقع الخطأ في بعضنسخ نقله.
فعلى هذا إن علمنا أنّ الاختلاف ناشٍ من اختلاف نسخ الكتاب فلا مجالللتمسّك بالأخبار العلاجيّة الواردة حول المتعارضين، ونتمسّك بها فيما إذ
- (1) تقدّم نقل هذا الخبر في ص480.