جميعها لكان عاصيا رأسا، سواء أخلّ ببعضها أو بتمامها.
وذلك كما إذا قال ـ في الحكم الوجوبي ـ : «أكرم مجموع العلماء» وأراد أنّللمجموع امتثالاً واحدا، وكما إذا نهى ـ في الحكم التحريمي ـ عن طبيعة، وكانله غرض واحد متعلّق بترك مجموع أفرادها، بحيث لو أتى بواحد منها لمامتثل أصلاً.
والفرق بين الفرد وصرف الوجود هو أنّ الطبيعة إذا وجدت بوجود أفرادمتعدّدة في زمان واحد، فكلّ واحد من هذه الأفراد المتقارنة الوجود يعدّ فردللطبيعة، بخلاف صرف الوجود، فإنّه لا يطلق إلاّ على مجموعها معا.
وأمّا إذا كان بين الأفراد تقدّم وتأخّر فكان صرف الوجود هو الفردالمتقدّم، لأنّه هو ناقض للعدم، لا الأفراد المتأخّرة.
ولا يخفى عليك أنّ الحكم إذا تعلّق بصرف وجود الطبيعة كان الوجودالأوّل ـ سواء تحقّق في ضمن فرد واحد أو في ضمن أفراد متعدّدة ـ محبوبا فيالأحكام الوجوبيّة، ومبغوضا في الأحكام التحريميّة، وأمّا ما يتحقّق منالأفراد بعده فلادخل له في المحبوبيّة أو المبغوضيّة أصلاً، ولا يتعدّد المحبوب أوالمبغوض فيما إذا تحقّق الوجود الأوّل في قالب فردين أو أفراد، لأنّ للمولىمحبوبا أو مبغوضا واحدا، وهو صرف الوجود الذي هو أوّل الوجود، سواءتحقّق في قالب فرد واحد، أو أكثر.
إن قلت: هذا خلاف ما اخترتم من أنّ الطبيعة توجد بوجود كل فرد منها،وتنعدم بانعدامه، والطبيعة في زمان واحد تكون موجودة بلحاظ أفرادهالموجودة ومعدومة بلحاظ أفرادها المعدومة.
قلت: هذا الذي اخترناه تبعا لسيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله (1)، وخلافللمحقّق الخراساني رحمهالله ـ حيث قال: الطبيعة توجد بوجود فرد ما ولا تنعدم إلبانعدام جميع الأفراد(2) ـ وإن كان صحيحا دقيقا بحسب حكم العقل، إلاّ أنّالعقلاء يحكمون بأنّ الحكم التحريمي إذا تعلّق بطبيعة كان موافقته بترك جميعأفرادها في الخارج.
وبعبارة اُخرى: لا يمكن الشكّ في حكم العرف بتوقّف الامتثال في الحكمالتحريمي المتعلّق بالطبيعة على ترك جميع أفرادها، وأمّا جعله تحت ضابطةفلسفيّة ـ كما فعل المحقّق الخراساني رحمهالله حيث قال: «الطبيعة توجد بوجود فردما ولا تنعدم إلاّ بانعدام جميع الأفراد» ـ فلا يمكن الالتزام به كما تقدّم(3).
هذه أقسام تعلّق التكليف بالطبيعة.
حكم الشبهات الموضوعيّة من القسم الأوّل
إذا عرفت هذا فاعلم أنّهم اختلفوا في جريان البرائة في الشبهاتالموضوعيّة من القسم الأوّل الذي يبدو أنّه أهمّ هذه الشبهات.
واستدلّ المنكرون بأنّ المولى إذا قال:« أكرم كلّ عالم» أو «لا تشربالخمر» كان البيان تامّا من قبل المولى، وواصلاً إلى العبد فرضا، إلاّ أنّه شكّلأجل اُمور خارجيّة في عالميّة شخص أو في خمريّة مايع، فلاوجه لجريان
- (3) راجع ص11 من الجزء الثالث.
(صفحه472)
البرائة العقليّة ولا النقليّة.
أمّا العقليّة: فلعدم كون العقاب حينئذٍ بلابيان كما لا يخفى.
بخلاف الشبهات الحكميّة التي كان منشأها عدم النص أو إجماله أو تعارضالنصّين أو النصوص، فإنّ البيان من قبل المولى لم يتمّ فيها، وكان العقاب عليهعقابا بلابيان ومؤاخذة بلابرهان.
وأمّا النقليّة: فلأنّه لا يرفع بمثل «حديث الرفع» إلاّ ما كان وضعه بيدالشارع، والموضوعات ـ مثل عالميّة زيد وخمريّة المايع الفلاني ـ ليس وضعهعلى عهدة الشارع بما هو شارع كي يكون رفعها بيده، فلا يعمّها «حديثالرفع» وسائر ما كان يدلّ على البرائة النقليّة.
وفيه: أنّ العقل يحكم بـ «قبح العقاب بلابيان» في جميع الموارد التي لم يتنجّزالتكليف، وتنجّز التكليف يتوقّف على قياس متشكّل من صغرى وكبرى،مثل «هذا خمر، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه».
فصرف العلم بالكبرى الكلّيّة لا يكفي في تنجّز التكليف ما لم يحرزالصغرى.
ولذا لو قطع المكلّف بعدم خمريّة مايع كان في الواقع خمرا وشربه فلميكنللشارع عقوبته ومؤاخذته، مع أنّ بيان الكبرى الكلّيّة من قبل الشارع ـ وهوقوله: «كلّ خمر حرام» ـ يكون تامّا وواصلاً إلى المكلّف.
وحينئذٍ فإذا شككنا في خمريّة مايع فلانتمكّن من تشكيل قياس صحيحمنتج، إذ لا يصحّ أن نقول: «هذا خمر» أو «هذا ليس بخمر» كي يترتّب عليهوجوب الاجتناب أو عدم وجوبه، بل الصحيح هو أن نقول: «هذا مشكوك(1)
- (1) لم نأخذ عنوان «القطع» في القضيّة في موارد القطع بالخمريّة أو عدمها، بل عبّرنا فيهما بـ «هذا خمر»و«هذا ليس بخمر» لكون «القطع» هاهنا طريقيّا، بخلاف الشكّ الذي لا يتصوّر كونه طريقا، ولا يصحّ أننعبّر في مورده بـ «هذا خمر» أو «ليس بخمر» بل لابدّ من التعبير بـ «هذا مشكوك الخمريّة». منه مدّ ظلّه.