(الصفحة 191)
الجواب بمعنى الإجارة ; لأنّ نفس الجواب بلزوم الإجارة أو الأُجرة إلى آخر الوقت ظاهر في عدم عروض البطلان بالموت أيضاً ، وإن كان محط السؤال أمراً آخر ، وعدم العمل بها في الصورة التي ذكرها لا شهادة فيه على عدم دلالة الرواية ، بل هي من هذه الجهة تامّة ، وإن كان اللاّزم تخصيصها بما إذا كان المؤجر موقوفاً عليه ومات ، لو لم نقل بخروج هذه الصورة عن منصرف الرواية ، كما ليس ببعيد .
فانقدح ممّا ذكرنا أنّ دلالة هذه الرواية الخاصّة وشبهها على لزوم الإجارة وعدم البطلان بالموت ممّا لا سبيل إلى المناقشة فيها ، كما عرفت .
ثمّ إنّ هنا رواية صحيحة أو موثّقة استدلّ بها كلّ من القائل بالبطلان والصحّة ، وقد اعترف بعض بإجمالها وعدم دلالتها على شيء منهما ، وهي ما حكاه في الوسائل عن الكافي للكليني ، أنّه روى عن إبراهيم بن محمّد الهمداني قال : كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام)وسألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطى الإجارة (الاُجرة ـ خ ل) في كلّ سنة عند انقضائها ، لا يقدم لها شيء من الإجارة (الاُجرة ـ خ ل) ما لم يمض الوقت ، فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها ، هل يجب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت ، أم تكون الإجارة منقضية بموت المرأة ؟ فكتب : إن كان لها وقت مسمّى لم يبلغ (لم تبلغه ـ خل) فماتت فلورثتها تلك الإجارة ، فإن لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئاً منه فتعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إن شاء الله(1) .
وحكاه في الحدائق(2) عن التهذيب مع اختلاف ، حيث إنّ فيه بدل «مالم يمض»
- (1) الكافي : 5 / 270 ح2 ، التهذيب : 7 / 207 ح912 ، وسائل الشيعة : 19 / 136 ، كتاب الإجارة ب25 ح1 .(2) الحدائق الناضرة : 21 / 541 .
(الصفحة 192)
«مالم ينقض» ، وبدل «منقضية» «منتقضة»، وبدل «فإن لم تبلغ» «وإن لم تبلغ» والموجود في التهذيب على ما لاحظت هو الواو دون الفاء ، وهو الاختلاف المهمّ الذي به يختلف معنى الرواية ومفادها ، كما أنّ بدل «منقضية» كان من حيث الكتابة قابلاً للمنتقضة وللمنتقصة المأخوذة من النقص ، وبدل الباء بعدها اللام(1) .
وكيف كان، فقد استدلّ في محكي مجمع البرهان(2) بهذه الرواية على عدم البطلان بموت المؤجر مدّعياً صراحتها في المطلوب، وأنّه لا يضرّ عدم صحّة سندها لأنّها مؤيّدة، وأنّ الإجماع المركّب يدلّ على عدم البطلان بموت المستأجر أيضاً .
وقد استدلّ بها بعض على البطلان ، كالمحكي عن المجلسي (قدس سره) في حواشي الفقيه(3)والرياض(4) وصاحب مفتاح الكرامة(5) ، وحكاه أيضاً المحقّق الرشتي (قدس سره)عن بعض مشايخه ، وعن محكي مجلس درس الشيخ الأعظم العلاّمة الأنصاري (قدس سره)(6) ، ولابدّ من ملاحظة تقريب الاستدلال بها عليه ، وأنّه هل تكون دلالتها عليه تامّة أم لا ؟ لأنّه لا حاجة لنا في إثبات دلالتها على الصحّة بعد كونها هي مقتضى العمومات والروايات كما عرفت ، فنقول : تقريب الاستدلال بها على البطلان من وجوه :
أحدها : ماحكاه المحقّق الرشتي عن بعضهم من أنّ المراد بالوقت في قوله (عليه السلام) : «إن كان لها وقت مسمّى» الأنجم المضروبة للاُجرة المفروضة في السؤال ، وأنّ المراد بقوله (عليه السلام) : «لم تبلغه» أنّه لم تبلغها اُجرتها ، فالمعنى أنّ المرأة إن ماتت بعد إدراك
- (1) أي في التهذيب: «لموت» بدل «بموت».(2) مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 65 ـ 66 .(3) الحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة : 41 .(4) رياض المسائل : 6 / 16 ـ 17 .(5) مفتاح الكرامة : 7 / 79 .(6) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 41 .
(الصفحة 193)
الأنجم المضروبة قبل أخذ الاُجرة فلورثتها تلك الأُجرة ، فالإجارة بمعنى الأُجرة ، والمراد بالشرطية الثانية أعني قوله (عليه السلام) : «وإن لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه . . .» إنّها ماتت في أثناء الأجل المضروب قبل أخذ الأُجرة ، وبقوله (عليه السلام) : «فيعطى ورثتها بقدر ما بلغت» ماهو ظاهره ; أعني استحقاق الورثة اُجرة الماضي من الزمان دون المستقبل . ووجه دلالتها على الفساد على هذا التقدير واضح ; لأنّ اختصاص استحقاق الورثة بالماضي دون المستقبل لا يتمّ إلاّ بفساد الإجارة في الأثناء بموت المرأة ، وفي مفتاح الكرامة(1) أنّ وجه العدول عن جواب سؤال الراوي بكلمة واحدة ـ وهو إمّا إنفاذ الإجارة أو بطلانها إلى التعرّض بحال الأُجرةـ هو التقية عن أصحاب الرأي(2) .
والجواب عن هذا التقريب واضح ; لأنّه ـ مضافاً إلى أنّ لازمه عدم مطابقة الجواب مع السؤال ، ضرورة أنّ السؤال إنّما هو عن إنفاذ الإجارة وانتقاضها بالموت ، والجواب متعرّض لحال الأُجرة المضروبة لها أوقات ، ومجرّد احتمال التقية لا يصحّح ذلك ـ يرد عليه أنّ الجواب ظاهر في أنّ الفاعل في كلمتي : «لم تبلغه» «وإن لم تبلغ» واحد وهي المرأة ، فجعل الفاعل في الاُولى «الأُجرة» وفي الثانية «المرأة» خلاف للظاهر جدّاً ، مع أنّ حمل كلمة الإجارة في الجواب على الأُجرة مع كونها في السؤال بمعنى الإجارة المصطلحة ـ على ماهو المفروض ـ ممّا لا شاهد له .
هذا ، مضافاً إلى أنّ هذا كلّه إنّما يتمّ على تقدير كون النسخة «لم تبلغه» مع أنّ أكثر النسخ على ما رأيت هو «لم يبلغ» والفاعل حينئذ هو الضمير الذي يرجع إلى
- (1) مفتاح الكرامة : 7 / 77 ـ 78 .(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 41 .
(الصفحة 194)
الوقت ، كما أنّه يتمّ على تقدير نسخة الواو دون الفاء ، مع أنّ الواو لا تكون إلاّ في التهذيب ، والمعروف أنّ الكافي أضبط من غيره ، وإلى غير ذلك من الإيرادات غير الخفية .
ثانيها : ما وصفه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بأنّه أحسن الوجوه ناقلاً حكايته عن غير واحد من مشايخه ; وهو أنّ الوقت في آخر السؤال محمول على مدّة أصل الإجارة ، لا على المدّة المضروبة لدفع الأجرة بقرينة الإنفاذ والانقضاء أو الانتقاض ، والجواب أيضاً محمول عليه ليكون الجواب مطابقاً للسؤال ، وحمل الشرطية الاُولى حفظاً لتقابلها مع الشرطية الثانية على عدم بلوغ شيء من مدّة الإجارة ; بأن يكون زمان العقد منفصلاً عن زمان المنفعة المملوكة بالعقد ، وحمل قوله (عليه السلام) : «فلورثتها تلك الإجارة» على أنّ أمرها بيد الورثة ردّاً وإمضاءً ، أو فعلاً وتركاً ، وحمل قوله (عليه السلام) : «فتعطى ورثتها . . .» على أنّ مقدار استحقاقهم الموروث من المرأة ما بلغت المرأة من الثلث أو النصف دون باقي مدّة الإجارة ، وهذا لازم انفساخ الإجارة بموتها(1) .
والجواب عنه ـ مضافاً إلى كون هذا التقريب أيضاً مبنيّاً على نسخة الواو وهي غير ثابتة ـ : أنّ حمل الشرطية الاُولى على عدم بلوغ شيء من مدّة الإجارة ، وكون زمان العقد منفصلاً عن زمان المنفعة ، مع عدم إشعار في السؤال بهذا الفرض بعيد جدّاً ، وأنّ اللاّم لا تفيد هنا إلاّ الاختصاص ، ومن المعلوم أنّ اختصاص تلك الإجارة بالورثة ليس معناه إلاّ قيامهم مقام المورِّث لا كون أمر الإجارة بيدهم .
مضافاً إلى أنّ إعطاء الورثة مقدار ما بلغت المرأة من الوقت ـ نصفاً أو ثلثاً أو
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 21 ـ 22 .
(الصفحة 195)
غيرهما ـ لا يلازم الانفساخ ، فمن الممكن أن يكون المراد مقدار استحقاق الدفع فعلاً ، فلا ينافي صحّة الإجارة بالنسبة إلى جميع الوقت . وإلى أنّ التفصيل بين ما إذا مضى مقدار من الوقت ، وبين ما إذا لم يبلغ شيء منه بالانفساخ في الأوّل وعدمه في الثاني ، غاية الأمر التوقّف على إنفاذ الورثة ـ كما هو المفروض ـ ممّا لا يقبله الذوق السليم ، فإنّ الصورة الثانية أولى بالانفساخ من الاُولى ، كما لايخفى ، فهذا الوجه أيضاً لا يكاد يتمّ بوجه .
ثالثها : ما هو نظير الوجه الثاني ، غاية الأمر ابتناؤه على نسخة الفاء ، وحينئذ فالشرطية الثانية تفريع على الشرطية الاُولى ، وكلتاهما متعرّضتان لحال مورد السؤال ; وهو عدم إدراك المؤجر جميع المدّة المسمّـاة في أصل الإجارة ، واستفادة البطلان حينئذ من إيجاب الإعطاء من الأُجرة بمقدار ما أدركته المرأة من تلك المدّة ، ولا ينافي ذلك قوله (عليه السلام) : «فلورثتها تلك الإجارة» فإنّ معناه عدم وجوب الإنفاذ الذي هو بمعنى الوفاء ; وهو كناية عن البطلان بالموت ، وإن أبيت ذلك نقول : بأنّه يستفاد منه البطلان بمعنى التوقّف على إجازة الوارث ، وهو أحد محتملات البطلان كما مرّ .
وجواب هذا الوجه يستفاد من الجواب عن الوجه المتقدّم ، فتدبّر .
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ عدم تماميّة دلالة الرواية على البطلان يكفي لنا ، ولا حاجة إلى إثبات دلالتها على الصحّة بعد اقتضاء العمومات والروايات لها ، إلاّ أنّه لا بأس بإيراد تقريب الاستدلال بها للصحّة ، ثمّ بيان ماهو مقتضى التحقيق في معنى الرواية ومفادها تتميماً للفائدة ، فنقول : إنّ الاستدلال بها للصحّة له تقريبان على ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) :
أحدهما : أنّ المراد من الوقت هو مدّة أصل الإجارة ، ومن الشرطية الاُولى