(الصفحة 86)
بعدما عرفت من عدم الدليل على قدح هذا المقدار من الجهالة في العقد فضلاً عن الشرط ، هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل .
***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
قال المحقّق في الشرائع : إذا قال : «آجرتك كلّ شهر بكذا» صحّ في شهر ، وله في الزائد اُجرة المثل إن سكن ، وقيل : تبطل لجهل الاُجرة ، والأوّل أشبه ، وذكر بعد ذلك فرعين آخرين ، قال : الأوّل : لو قال : «إن خطته فارسياً فلك درهم، وإن خطته روميّاً فلك درهمان» صحّ. الثاني : لو قال : «إن عملت هذا العمل في اليوم فلك درهمان وفي غد درهم» فيه تردّد ، أظهره الجواز(1) .
فهنا فروع ثلاثة ، وينبغي قبل التكلّم فيها والبحث عنها التنبيه على أمر ; وهو أنّ المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) استنبط من هذه الفروع المذكورة في الشرائع أنّ المحقّق قائل بأنّ من أحكام الاُجرة التعيين ، ومرجع ذلك إلى أنّ اشتراط المعلومية لا يغني عن اشتراط التعيين ، بل لابدّ من اشتراط كليهما ـ كما فعله بعض المتأخّرين في رسالته(2)ـ وأورد على من استند للبطلان بتجهّل الاُجرة بما حاصله يرجع إلى أنّ الجهل هو عدم العلم بنحو العدم المقابل للملكة ، فما لم يكن له واقع لا معنى للعلم به تارةً وللجهل به اُخرى ، وعدم العلم بعدم المعلوم لا يكون من الجهل المقابل للعلم ، والمقام من هذا القبيل ; لعدم ثبوت الواقعية للماهية غير المتعيّنة بشيء من التعيّنات ، فيستحيل أن تكون مقوّمة لصفة الملكيّة(3) .
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .(2) السيّد أبو الحسن الإصفهاني في وسيلة النجاة : 2 / 50 .(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 76 ـ 77 .
(الصفحة 87)
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّ مراد من اشترط مجرّد المعلوميّة هو المعلوميّة العرفيّة ، التي تشمل التعيين أيضاً كما لا يخفى ـ : أنّه لا وجه لما أفاده من عدم ثبوت الواقعيّة مع عدم التعيّن بحسب الخارج ، وذلك لأنّ واقعية كلّ شيء إنّما هي بحسبه ، فإذا كان الشيء من الموجودات الخارجية والاُمور الجزئية الشخصية فواقعيّته مساوقة للتعيّن الخارجي ، ولا يعقل أن يكون غير متعيّن ومقوّماً لصفة الملكيّة أو غيرها من الصفات الاُخر مع وصف عدم التعيّن ، فلا معنى لتعلّق العلم أو الجهل به مع هذه الصفة ، وأمّا إذا لم يكن الشيء من الموجودات الخارجية ، بل كان ظرف وجوده الذهن فواقعيته إنّما تلاحظ بالإضافة إلى الذهن ، ولا يكون التردّد بحسب الخارج قادحاً في تعلّق العلم به بالنظر إلى واقعيّته ، فإنّه لو كانت الاُجرة في المقام مثلاً أحد العبدين المعلومين من جميع الجهات المتماثلين في الصفات الموجبة لاختلاف الرّغبات لكان اللاّزم هو تعلّق العلم بهذا العنوان المجعول اُجرة ، وهو عنوان أحدهما الذي لا يكون ظرف وجوده ووعاء تحقّقه إلاّ الذهن ، ومن الواضح إمكان تعلّق العلم بهذا العنوان وكذا الجهل .
وبالجملة : فما هو المجعول اُجرة هو عنوان أحدهما ، الذي يكون متحقّقاً في الذهن ومتّصفاً بوصف المعلومية ; لثبوت الواقعية له بالإضافة إلى ظرف وجوده ، وما لايمكن تعلّق العلم به لأجل عدم الثبوت والواقعية له هو المردّد الخارجي ; وهو لايكون مجعولاً اُجرة ، فما أفاده (قدس سره) من قبيل الخلط بين المفهوم والمصداق الذي ربّما يتّفق كثيراً .
ويدلّ على ما ذكرناه أنّه لا خلاف بينهم في أنّه يجوز أن تكون الاُجرة في الإجارة كلّية ، كما أنّه يجوز أن تكون جزئية شخصية مع جريان ما ذكره من الإشكال في الاُجرة الكلّية ; ضرورة أنّ ما هو المجعول اُجرة هو
(الصفحة 88)
الأمر الكلّي الذي لا يكون متعيّناً في الخارج ولا يكون ظرف وجوده إلاّ الذهن ، وما هو الموجود في الخارج الذي يكون متعيّناً لم يجعل اُجرة ، فكما أنّ معلومية ذلك الأمر الكلّي الذي واقعيته إنّما تلاحظ بالإضافة إلى ظرف وجوده تكفي في جعله اُجرة ، ولا معنى لدعوى عدم إمكان تعلّق العلم به ، كذلك عنوان أحدهما في المقام . غاية الأمر أنّ هذا العنوان لا تتجاوز مصاديقه عن اثنين ، وهذا لا يكون فارقاً بل هو مؤيّد لتحقّق وصف المعلومية ، كما لا يخفى .
فانقدح أنّ ما أفاده من فقدان هذا الوصف في أمثال المقام ممّا لا يستقيم ، ولا يقبله العقل والذوق السليم ، فتأمّل جيّداً .
نعم ، يقع الكلام بعد ذلك في الاكتفاء بتحقّق اشتراط المعلومية المتحقّقة في المثال المذكور ، أو أنّه لا يكفي ذلك ، بل لابدّ من التعيّن أيضاً ، والظاهر أنّه لا دليل على اشتراط أزيد من المعلومية ، فلا مانع من جعل الاُجرة أحد العبدين الموصوفين بالوصف المذكور ; لما عرفت من أنّ عنوان أحدهما كسائر العناوين الكلّية له واقعية ويمكن تعلّق العلم به ، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك ، ومنه يظهر أنّه لو جعل الاُجرة : العبد من العبدين الكذائيين لكان جائزاً بطريق أولى ، كما لا يخفى .
وأمّا لو جعل الاُجرة هذا أو ذاك مشيراً إليهما ، فربما يقال بعدم الجواز ، نظراً إلى أنّه ليست الاُجرة حينئذ أمراً ذهنيّاً يكون ظرف وجوده ووعاء تحقّقه النفس ، كما لو جعل الاُجرة عنوان أحدهما ، بل هي أمر خارجي مردّد بين الأمرين ، فلا تكون لها واقعية حتّى يتعلّق بها العلم تارةً والجهل اُخرى ; ضرورة أنّ الموجود في الخارج متعيّن ، فالمردّد بما هو مردّد لا يكون موجوداً في الخارج حتّى يكون متعيّناً ، فجعل الاُجرة هذا النحو ممنوع موجب لبطلان الإجارة .
(الصفحة 89)
هذا، وربّما يجاب عن ذلك بأنّه لا مانع عن جعلها بهذا النحو أيضاً ; لأنّ المقام حينئذ يصير كالعلم الإجمالي المتعلّق بأحد الشيئين ، فكما أنّ تردّد المعلوم في موارد العلم الإجمالي لا يمنع عن تعلّق العلم به . غاية الأمر إيجابه لكون العلم متّصفاً بالإجمالي قبال العلم التفصيلي الذي لا تردّد في معلومه ، كذلك التردّد في المقام لا يقدح بتعلّق العلم بما هو المجعول اُجرة . غاية الأمر كونه معلوماً بنحو الإجمال ، وكذلك المقام نظير الواجب التخييري ، بناءً على كونه سنخاً من الوجوب متعلّقاً بأمرين أو أزيد ، فكما أنّه لامانع من ايجاب أمرين أو أزيد بنحو الوجوب التخييري ، الذي مرجعه إلى إفادة عدم لزوم الإتيان بأزيد من أحدهما بواسطة الإتيان بكلمة أو ونحوها ، كذلك لا مانع عن جعل الاُجرة في المقام كذلك ، كما لايخفى .
ويرد على هذا الجواب : بطلان مقايسة المقام بموارد العلم الإجمالي ، وذلك لأنّ في تلك الموارد يكون المعلوم بالإجمال له واقعية وتعيّن . غاية الأمر أنّ المكلّف مردّد لا يعلم بأنّ هذا الطرف من العلم الإجمالي هو ذلك المعلوم أو ذاك الطرف ، وأمّا في المقام فالمفروض أنّه لا تكون الاُجرة متعيّنة بحسب الواقع ; لأنّها مجعولة مردّدة من أوّل الأمر ، فلا يعقل أن يتّصف بالمعلومية ، وكذا بالمجهولية لما عرفت ، وأمّا تنظير المقام بالواجب التخييري فمحلّ نظر بل منع أيضاً ; لأنّه هناك يكون كلّ واحد من الأمرين أو الاُمور معروضاً للوجوب ومحكوماً عليه به . غاية الأمر أنّه لا يجب الإتيان بالجميع ; لأنّ هذا أيضاً سنخ من الوجوب مغاير للوجوب التعييني ، وهنا لاتكون الاُجرة إلاّ أحد الأمرين ، لا عنوان أحدهما بل المردّد بينهما ، وهو كما عرفت ليس له واقعية حتّى يتّصف بالمعلومية أو بنقيضها .
[انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].
***
(الصفحة 90)
الفرع الثاني : ما لو قال : إن خطته رومياً فلك درهمان ، وإن خطته فارسياً فلك درهم ، وقد وقع الخلاف فيه من حيث صحّة هذا النحو من الإجارة وعدمها ، وقد صرّح المحقّق في الشرائع بالصحّة(1) ، وهي المحكية عن الخلاف(2) والتذكرة(3)والتنقيح(4) ومجمع البرهان(5) والكفاية(6) واللمعة(7) ، وعن التحرير : أنّه لايخلو من قوّة(8) ، ولكن المحكي عن السرائر(9) والمختلف(10) والإيضاح(11) وشرح الإرشاد(12)والحواشي(13) وجامع المقاصد(14) والمسالك(15) والروضة(16) هو البطلان ، وقد حكي عن سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره)أنّه حكى عن أبي حنيفة القول بصحّة الإجارة في التقدير الأوّل الواقع في عبارة المستأجر، والحكم بثبوت اُجرة المثل في التقدير الآخر ، ولكن صرّح في مفتاح الكرامة بأنّ أبا حنيفة ممّن يقول بصحّة العقد
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .(2) الخلاف : 3 / 510 مسألة 40.(3) تذكرة الفقهاء: 2 / 294 .(4) التنقيح الرائع : 2 / 265 .(5) مجمع الفائدةوالبرهان : 10 / 24 ـ 25 .(6) كفاية الأحكام : 125 .(7) اللمعة الدمشقية : 94 .(8) تحرير الأحكام : 3 / 83 ، وفيه : «جاز على إشكال» .(9) السرائر : 2 / 478 .(10) مختلف الشيعة : 6 / 130 مسألة 31.(11) إيضاح الفوائد : 2 / 248 .(12) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 7 / 106 .(13) حاشية الإرشاد (المطبوع مع غاية المراد) : 2 / 310 .(14) جامع المقاصد : 7 / 107 .(15 ، 16) مسالك الأفهام : 5 / 182، الروضة البهية: 4 / 334 ـ 335.