(الصفحة 20)
بالإضافة إلى ظرف وجوده ، وما لا يمكن تعلّق العلم به لأجل عدم ثبوت الواقعية له هو المردّد الخارجي ، وهو لايكون متعلّقاً للإجارة وطرفاً للإضافة ، فما أفاده (قدس سره)من قبيل الخلط بين المفهوم والمصداق الذي ربما يتّفق كثيراً .
ويدلّ على ما ذكرنا أنّه لا خلاف بينهم في أنّه يجوز أن تكون الأُجرة في الإجارة كليّة ، كما أنّه يجوز أن تكون جزئية شخصية مع جريان ما ذكره من الإشكال في الأُجرة الكليّة ، ضرورة أنّ ما هو المجعول اُجرة هو الأمر الكلّي الذي لايكون متعيّناً في الخارج ، ولايكون ظرف وجوده إلاّ الذهن ، وماهو الموجود في الخارج الذي يكون متعيّناً لم يجعل أُجرة ، فكما أنّ معلومية ذلك الأمر الكلّي الذي تلاحظ واقعيته بالإضافة إلى ظرف وجوده تكفي في جعله أُجرة ، ولا معنى لدعوى عدم امكان تعلّق العلم به كذلك عنوان أحدهما في المقام . غاية الأمر أنّ هذا العنوان لاتتجاوز مصاديقه عن اثنين ، وهذا لايكون فارقاً بل مؤيّد لتحقّق وصف المعلومية .
فانقدح ممّا ذكرنا أنّه لا مانع من كون متعلّق الإجارة مثل إحدى الدارين ; لما عرفت من أنّ عنوان «أحدهما» كسائر العناوين الكليّة له واقعية ، ويمكن تعلّق العلم به ، ولا دليل على اعتبار أزيد من ذلك ، ومنه يظهر أنّه لو آجر العبد من العبدين المعلومين من حيث الصفات والخصوصيات يكون جائزاً بطريق أولى .
وأمّا لو آجر هذا أو ذاك مشيراً إليهما فربما يقال بعدم الجواز ، نظراً إلى أنّه لايكون متعلّق الإجارة حينئذ أمراً ذهنياً يكون ظرف وجوده ووعاء تحقّقه النفس ، كما لو جعل الاُجرة أو متعلّق الإجارة عنوان أحدهما ، بل هو أمر خارجيّ مردّد بين أمرين ، ولايكون له واقعية حتّى يتعلّق بها العلم تارة والجهل اُخرى ، ضرورة أنّ الموجود في الخارج متعيّن ، فالمردّد بما هو مردّد لايكون موجوداً في
(الصفحة 21)
الخارج حتّى يكون متعيّناً ، فالإيجار بهذا النحو محكوم بالبطلان .
وربما يجاب عن ذلك بأنّه لامانع من الإجارة بهذه الكيفية أيضاً ; لأنَّ المقام حينئذ يصير كالعلم الإجمالي المتعلّق بأحد الشيئين ، فكما أنّ تردّد المعلوم في موارد العلم الإجمالي لا يمنع عن تعلّق العلم به . غاية الأمر كونه موجباً لاتصاف العلم بالإجمال في مقابل العلم التفصيلي الذي لاتردّد في معلومه ، كذلك التردّد في المقام لايقدح في تعلّق العلم بما هو متعلّق الإجارة ، غاية الأمر كونه معلوماً بنحو الإجمال . وكذلك المقام نظير الواجب التخييري ـ بناءً على كونه سنخاً من الوجوب متعلّقاً بأمرين أو أزيد ـ فكما أنّه لامانع من إيجاب أمرين أو أزيد بنحو الوجوب التخييري الذي مرجعه إلى عدم لزوم الإتيان بأزيد من أحدهما مثلاً بواسطة الإتيان بكلمة «أو» ونحوها ، كذلك لا مانع من جعل المتعلّق في المقام كذلك .
ويرد على هذا الجواب بطلان مقايسة المقام بموارد العلم الإجمالي ، وذلك لأنّه في تلك الموارد يكون المعلوم بالإجمال له واقعية وتعيّن . غاية الأمر أنّ المكلّف مردّد لايعلم بأنّ هذا الطرف من العلم الإجمالي هو ذلك المعلوم أو ذاك الطرف ، وأمّا في المقام فالمفروض أنّ متعلّق الإجارة لايكون متعيناً بحسب الواقع ; لأنّه مردّد من أوّل الأمر ، وقد تعلّق به الإجارة كذلك ، فلا يعقل أن يتّصف بالمعلومية والمجهوليّة .
وأمّا تنظير المقام بالواجب التخييري فمحل نظر بل منع أيضاً ; لأنّه هناك يكون كلّ واحد من الأمرين أو الاُمور معروضاً للوجوب ومتصفا بكونه واجباً . غاية الأمر أنّه لايجب الإتيان بالجميع ; لأنّ هذا أيضاً سنخ من الوجوب مغائر للوجوب التعييني ، وهنا لاتكون الإجارة متعلّقة إلاّ بأحد الأمرين لابعنوان أحدهما ، بل
(الصفحة 22)
بالمردّد بينهما ، وهو كما عرفت لايكون له واقعية حتّى يتعلّق بها العلم تارة والجهل أُخرى ، فالإنصاف أنّه لا مجال للحكم بالصحّة في هذا الفرض .
الثاني : أن يكون معلوماً، والمراد به المعلوميّة بالإضافة إلى الصفات التي تختلف بها الرغبات من حيث إجارتها ، وقد استدلّ على اعتباره تارةً بالإجماع على أنّ الجهالة مبطلة للإجارة كما عن المختلف(1) ، وبأنّا لانعلم فيه خلافاً كما عن التذكرة(2) . واُخرى بكون بناء العقلاء على ذلك(3) . وثالثة بما أرسله الشهيدان (قدس سرهما)في القواعد(4) والمسالك(5) من أنّه نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الغرر(6) ، أو بقوله (عليه السلام) : نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر(7) ، بناء على إلغاء خصوصية البيع واستفادة المناط .
أقول : أمّا الإجماع ، فالظاهر عدم كونه دليلاً مستقلاًّ بعد وضوح كون المستند سائر الوجوه .
وأمّا بناء العقلاء ، فهو لا ينطبق على المدّعى ; لأنّه عبارة عن كون العين معلومة من جميع الجهات التي لها دخل في اختلاف الرغبات ، ويختلف بحسبها الأغراض
- (1) مختلف الشيعة : 6 / 105 مسألة 4 .(2) اُنظر تذكرة الفقهاء : 2 / 300 ، ولكن ليس فيه نفي الخلاف .(3) مستند العروة الوثقى ، كتاب الإجارة : 33 .(4) القواعد والفوائد : 2 / 61 .(5) مسالك الأفهام : 5 / 178 ـ 179 .(6) وكذا ذكره الشيخ في الخلاف: 3 / 319، مسألة 13، والعلاّمة في مختلف الشيعة : 5 / 267 مسألة 235 ، ولكن لم توجد في كتب حديث الخاصّة والعامّة، وإنّما الموجود النهي عن بيع الغرر .(7) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : 2 / 45 ح168 ، دعائم الإسلام : 2 / 21 ح34 ، وسائل الشيعة : 17/448 ، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة ب40 ح3 ، عوالي اللئالي : 2 / 248 ح17 .وانظر صحيح مسلم : 3 / 932 ح1513 ، وسنن ابن ماجة : 3 / 36 ح2195 ، وسنن أبي داود : 3 / 435 ح3376 ، والسنن الكبرى للبيهقي : 8 / 93 ح10554 ، والموطأ : 430 ب34 ح1370 .
(الصفحة 23)
والمالية ، والمعلومية بهذا المعنى لم يثبت بناء العقلاء عليها .
وأمّا النهي عن الغرر ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى كونه مرسلاً لا يصحّ الاعتماد عليه ، وانجباره بعمل الأصحاب غير معلوم . نعم ، ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) : إنّ اشتهار الخبر بين العامّة والخاصّة يجبر ارساله(1) ـ أنّ الغرر ليس بمعنى الجهالة ، بل هو عبارة عن الخطر والتعرض للمهلكة ، وعليه فالظاهر كون النهي نهياً مولويّاً مفاده حرمة التعرّض للمهلكة ولا ارتباط له بباب المعاملات ، بل هو نظير قوله تعالى :
{وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلَى التَهلُكَةِ}(2) .
وأمّا النهي عن بيع الغرر فلا يمكن أن يكون مستنداً في باب الإجارة إلاّ بعد إلغاء الخصوصية ، ودعوى كون ذكر البيع إنّما هو لأجل كونه الغالب في باب المعاوضات ، وهي غير ثابتة كما لايخفى ، ولكنّها تؤيّد بفهم الأصحاب على ماسيجيء . ثمّ إنّه لو كانت العين المستأجرة عيناً خارجية حاضرة فطريق العلم بها إمّا المشاهدة الرافعة للجهالة ، وإمّا ذكر الأوصاف التي تختلف بها الرغبات في إجارتها ، وأمّا إذا كانت غائبة أو كانت كلية فالطريق منحصر بذكر الأوصاف ; لعدم إمكان المشاهدة للغيبة ، أو لعدم كونها جزئية .
الثالث : أن تكون العين المستأجرة مقدوراً على تسليمها ، فلا تصحّ إجارة الدابّة الشاردة ونحوها ، وقد جعله في الشرائع من شرائط المنفعة(3) ، ولا بأس بالتعرّض لاعتبار هذا الأمر مفصلاً ، فنقول :
قد وقع الاتفاق من العامّة والخاصّة على اعتبار القدرة على تسليم العوضين في
- (1) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 4 / 176 .(2) سورة البقرة 2 : 195 .(3) شرائع الإسلام : 2 / 186 .
(الصفحة 24)
المعاوضات ، بيعاً كان أو إجارة أو غيرهما(1) . نعم ، حكي عن الفاضل القطيفي المنع عن ذلك(2) ، لكنّ العبارة المحكية عن إيضاح النافع(3) لا تكون صريحة في مخالفة المشهور بل المجمع عليه ; لإمكان حملها على بعض الفروض التي لا يختص القائل بالصحّة فيها به ، وكيف كان فمدرك اعتبار هذا الأمر في المعاوضات اُمور :
الأوّل : ما استدلّ به الفريقان ـ العامّة والخاصّة ـ على اعتبار القدرة على التسليم ; وهو النبوي المتقدّم الدالّ على النهي عن بيع الغرر أو عن الغرر ، وهذا هو العمدة في الباب ، وقد عرفت ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) من أنّ الاشتهار بين الفريقين يجبر إرساله ، ولكنّه يقع الكلام فيه من حيث الدلالة في ثلاث جهات :
الجهة الاُولى : في معنى الغرر ، والظاهر أنّ معناه الحقيقي عبارة عن الخديعة الملازمة للغفلة وعدم الإلتفات ، ولأجله يفسّر بالغفلة أيضاً . قال في الصحاح : «الغِرّة : الغفلة . والغارّ : الغافل ، واغتَرَّهُ : أي أتاه على غِرَّة منه ، واغترّ بالشيء : أي خدع به»(4) ويشهد له حديث الغرور المعروف ، وهو أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه(5) . وأمّا تفسيره بالخطر كما عن غير واحد من كتب اللغة
- (1) راجع الخلاف : 3 / 168 مسألة 274 ، وغنية النزوع : 211 و285 ، وتذكرة الفقهاء : 1 / 466 ، ومجمع الفائدة والبرهان : 10 / 58 .(2) حكى عنه الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب : 4 / 190 .(3) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 4 / 224 .(4) الصحاح : 1 / 622 .(5) لم يوجد في كتب الحديث ، لكن حكي انتسابه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد ، راجع حاشية المكاسب للسيّد اليزدي : 1 / 179 . وذكره صاحب الجواهر بعنوان النصّ من أحد المعصومين (عليهم السلام) ، جواهر الكلام : 37 / 145 . والظاهر أنّ إسناده كان مستنداً إلى ما هو المعروف لا إلى الوجدان في بعض كتب الحديث ، راجع القواعد الفقهية للمؤلّف دام ظلّه 1 / 216 .