(الصفحة 284)
المنفعة المعدومة حال العقد قابلة لفرض وجودها وتقديرها حينه مقدّمة لاعتبار الملكيّة ، كما أفادوه في مقام الردّ على أبي حنيفة(1) القائل بتوقّف الملكيّة على وجود المنفعة في الخارج ، فمع تقديرها والحكم بعروض الملكيّة لها بسبب العقد لا مجال لجعل التلف قبل القبض كاشفاً عن عدم انعقاد الإجارة من رأس ، بحيث يكون مرجعه إلى أنّ من شرائط تأثير الإجارة في حدوث الملكيّة ، وحصول أصل النقل والانتقال بقاء متعلّقها الذي هو العين إلى زمان تحقّق القبض .
وهذا ـ مع أنّه لا دليل عليه ـ ممّا لايساعده العرف والعقلاء . بل غاية الأمر أنّ التلف قبل القبض عندهم مانع عن استمرار أثر الإجارة ودوام تأثيرها ، فهل الإجارة في هذه الصورة عندهم بمنزلة وقوع البيع على عين شخصية بتخيّل وجودها في الخارج مع انكشاف تلفها حال البيع ؟ ومن الواضح أنّه لا مشابهة بين المقامين عند العقلاء ، بل الظاهر عندهم عدم انعقاد الثاني بخلاف الأوّل ، فإنّه انعقد صحيحاً ولم يستمرّ .
هذا ، مضافاً إلى أنّه من البعيد جدّاً خفاء هذا المعنى على المحقّقين من الفقهاء ، حتّى يحكموا من أجله بالبطلان حين التلف الظاهر في الانفساخ ، دون عدم الانعقاد من رأس على ما هو مقتضي هذا الوجه ، فلابدّ حينئذ من التفحّص عن وجه حكمهم بذلك في هذا المقام ، بل الظاهر عدم اختصاص اتّحاد هذا المقام مع باب البيع بخصوص هذا الحكم ، كما استظهره صاحب الجواهر أيضاً ، حيث قال : ظاهر الأصحاب في المقام اتّحاد الحكم في المقامين ، وأنّ المنفعة هنا بمنزلة المبيع والاُجرة هنا بمنزلة الثمن ، ومن هنا يتّجه جريان جميع ما تقدّم هناك في المقام ، كالبحث عن
- (1) الخلاف : 3 / 489 مسألة 3 ، المغني لابن قدامة : 6 / 13 ، المبسوط للسرخسي : 15 / 109 .
(الصفحة 285)
تلف الثمن المعيّن ، وعن التلف بغير الآفة السماوية ، كتلف الأجنبي والبائع والمشتري ، وعن تقييد الحكم بما إذا لم يكن عدم القبض من امتناع المستحقّ أو بسؤاله البقاء في يد البائع ، وغير ذلك ممّا تقدّم هناك ، فلاحظ وتأمّل(1) .
والظاهر أنّ مقتضى إمعان النظر وإعمال الدقّة هو أنّ الوجه في التعدية ليس إلاّ إلغاء الخصوصية من الدليل الوارد في باب البيع ، بضميمة استفادتهم من ذلك الدليل الانفساخ كما ذكروا هناك(2) . نعم ، يقع الإشكال حينئذ في أنّ الحكم الذي يكون على خلاف القاعدة لا مجال لإلغاء الخصوصية عن مورده ، بل لابدّ من الاقتصار على خصوص محلّه .
ويمكن دفع الإشكال بأنّ المراد من القاعدة التي يكون الحكم بالانفساخ مخالفاً لها إن كان هي قاعدة كون التلف من مال مالكه ، فمع كونه ملكاً للمشتري عند التلف لامجال للحكم بكونه من مال البائع مع فرض تماميّة العقد وتأثيره في حصول الملكيّة التامّة ، ففيه : أنّ مرجع الحكم بالانفساخ إلى اشتراط بقاء العين إلى زمان القبض في بقاء أثر العقد واستمرار تأثيرها ، وإلاّ فلا يعقل الحكم بالانفساخ أصلاً ، فمع فقدان هذا الشرط لا سبيل إلاّ للحكم بالانفساخ ، ولا يكون على خلاف القاعدة .
اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مرجع الاشتراط ليس إلى الانفساخ الذي هو مرادهم ، فإنّ اشتراط بقاء العين إلى زمان القبض في بقاء أثر العقد واستمرار صحّته ، معناه أنّه مع فقد هذا الشرط لم تكن الإجارة من أوّل الأمر مؤثِّرة في البقاء ، لا أنّها كانت
- (1) جواهر الكلام : 27 / 277 .(2) رياض المسائل : 5 / 127 ، مفتاح الكرامة : 4 / 596 ، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 6 / 270 .
(الصفحة 286)
من حيث التأثير تامّة ثمّ عرض لها الانفساخ ، كما لا يخفى .
وإن كان المراد هو الإطلاق الذي يكون الاشتراط مخالفاً له ففيه : أنّ الاشتراط والحكم باعتبار شيء في تأثير العقد حدوثاً أو بقاءً ليس من الخلاف بوجه حتّى لا يجوز إلغاء الخصوصية من مورده إلاّ مع بيّنة قويّة ، كما هو ظاهر .
فالإنصاف أنّ حكمهم بثبوت الملكيّة التامّة بالنسبة إلى المنفعة والاُجرة معاً بمجرّد العقد ـ كما اشبعنا الكلام فيه فيما تقدّم(1) ـ دليل على أنّ العقد كامل من حيث حدوث التأثير ، ولا يتوقّف على ملاحظة بقاء العين إلى زمان القبض ، فالتلف قبله لابدّ من أن يكون موجباً للانفساخ لا البطلان من رأس ، فتدبّر .
ويؤيّد الانفساخ أنّه فيما إذا كانت المنفعة عيناً من الأعيان كما في إجارة الأشجار ذات الثمرة ـ بناءً على صحّة إجارتها ـ لا مجال لدعوى كون التلف كاشفاً عن عدم ملكيّة المنفعة لعدم ثبوتها ، ضرورة أنّ المنفعة فيها تكون من الأعيان الموجودة في الخارج ، والتلف لا يكشف عن عدم دخولها في ملك المستأجر ، بل تكون حينئذ كالمبيع في باب البيع ، فدعوى البطلان من رأس على فرض تماميتها لاتجري في مثل هذا الفرض .
الثاني : تلف العين المستأجرة بعد العقد والقبض بلا فصل ، وظاهرهم الانفساخ في هذه الصورة أيضاً ، وأنّها متّحدة مع الصورة الاُولى في الحكم . قال في الجواهر في مقام التعليل للإتّحاد : إنّ المنفعة هي التي بمنزلة المبيع ، ولا ريب في تحقّق تلفها قبل قبضها ، وإن كان بعد قبض العين التي تستوفى منها ، وليس في الأدلّة ما يقضي بأنّ قبض العين قبض للمنفعة بالنسبة إلى ذلك ، وإن كان هو كذلك بالنسبة إلى
(الصفحة 287)
استحقاق تسليم الاُجرة ونحوه(1) . وتبعه في هذا المحقّق الرشتي (قدس سره)(2) .
وأورد على كليهما المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بأنّ القبض الذي يستحقّ به الأُجرة قبض المنفعة ، وقبض العين مقدّمة له ، وحيث لا منفعة فلا قبض لأحد طرفي المعاوضة ، بل اللاّزم إبقاء العين تحت يده في تمام المدّة حتى يكون إقباضاً لتمام المنفعة حتّى يستحقّ مطالبة الأُجرة تماماً(3) .
وأنت خبير بأنّ الحكم بتوقّف استحقاق مطالبة تمام الأُجرة على كون العين تحت يده في تمام المدّة المضروبة مخالف لما هو الثابت عندهم ; من ثبوت استحقاق مطالبة تمام الأُجرة بمجرّد تسليم العين ، كما عرفت الكلام فيه فيما تقدّم(4) .
الثالث : تلف العين المستأجرة بعد القبض في أثناء المدّة المضروبة ، والمشهور(5)أنّه يصحّ فيما مضى ويبطل في الباقي ، معلّلاً له في الجواهر بأنّه كتلف بعض المبيع ـ يعني قبل القبض ـ وعليه فيرجع من الأُجرة بما قابل المتخلّف من المدّة(6) ، وظاهر المشهور أنّ المراد بالبطلان هو الانفساخ الذي حكموا به في الفرعين المتقدّمين ، ويؤيّده تعبير بعضهم بذلك كالعلاّمة(7) فيما حكي عنه ، ومرجعه إلى أنّ العقد كان صحيحاً تامّاً ، وبالتلف في الأثناء يعرض له الانفساخ ، كالتلف قبل القبض أو بعده بلا فصل ، ولكن بناءً على مبنى الجماعة المتقدّمة في الفرع الأوّل لابدّ أن يقال : بأنّ
- (1) جواهر الكلام : 27 / 278 .(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 235 .(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 172 ـ 173 .(4) في ص251ـ 254 .(5) المبسوط : 3 / 223 ، شرائع الإسلام : 2 / 183 ، مسالك الأفهام : 5 / 196 .(6) جواهر الكلام : 27 / 278 ـ 279 .(7) تذكرة الفقهاء : 2 / 322 .
(الصفحة 288)
المراد من البطلان في الباقي عدم انعقاد الإجارة بالإضافة إليه من أوّل الأمر ; لعدم ثبوت هذا المقدار من المنفعة في وعاء ثبوته ، فلا معنى لتعلّق التمليك به بالعقد .
وعلى هذا المبنى لا يحتاج الحكم بالبطلان إلى تكلّف إقامة الدليل ، بخلاف مبنى المشهور ، مضافاً إلى جريان المناقشة في إمكانه على ما عرفت في الفرع الأوّل ، فإنّ الحكم بالانفساخ لابدّ وأن يكون مسبّباً عن خلل فيما يشترط في تأثير عقد الإجارة بقاءً ; ضرورة أنّه مع تماميّة الجهات المعتبرة في التأثير حدوثاً وبقاءً لايبقى موقع للحكم بالانفساخ وعروض البطلان ، فالحكم به يكشف عن الخلل في شيء من الاُمور المعتبرة في التأثير بقاء ، ومع وجود هذا الخلل لابدّ من الحكم بعدم تأثير الإجارة من أوّل الأمر في البقاء ، لا التأثير ثمّ الانفساخ .
وبالجملة : فالانفساخ بالمعنى الذي أفتى به المشهور تصوّره لايخلو عن الإشكال ، إلاّ أن يقال : بإمكان تصوّره في خصوص باب الإجارة ، من جهة أنّ قوام الإجارة إنّما هو بوجود العين المستأجرة ، فمع فرض تلفها بعد الإجارة وقبل انقضاء مدّتها لا مجال لاعتبار بقائها عند العقلاء ، من دون أن يكون ذلك من جهة الخلل في شرائط التأثير .
وكيف كان ، فقد وقع الإشكال في مدرك حكم المشهور بالانفساخ في التلف في الأثناء ، وما يمكن أن يكون وجهاً له أحد اُمور :
أوّلها : ما أفاده في الجواهر : من أنّ التلف في الأثناء بمنزلة تلف بعض المبيع الذي يوجب الانفساخ بالإضافة إلى خصوص التالف(1) ، ومنشأ هذا الوجه ما تقدّم(2)
- (1) جواهر الكلام : 27 / 278 ـ 279 .(2) في ص285 .