(الصفحة 390)
عن الشيخ (قدس سره) عدم الجواز مع اتّحاد الجنس إلاّ أن يعمل فيه شيئاً ، ولم نتحققه(1) .
أقول : الوجه في عدم ذكر الجواز مع الاختلاف هنا أنّ الروايات الواردة في هذه المسألة الدالّة على النهي تحريماً أو تنزيهاً يكون موضوعها عنوان الربح ، ومن المعلوم أنّ تحقّقه لا يتوقّف على اتّحاد الجنس كما في أرباح التجارات المتعلّقة للخمس . نعم ، في إحدى روايتي محمّد بن مسلم المتقدمتين وقع عنوان الاستفضال مورداً للسؤال ، وعليه فيمكن أن يتوهّم أنّ الجواب بنفي البأس بضميمة قوله (عليه السلام) : «قد عمل فيه» ما يدلّ بمفهومه على أنّ البأس الثابت مع عدم العمل مورده الاستفضال الظاهر في اتّحاد الجنس ، لعدم الفرق بينه وبين عنوان الأكثرية كما عرفت ، ولعلّ هذا هو الوجه فيما حكي عن الشيخ (قدس سره) ، ولكن تجاوز هذا عن حدّ التوهّم ممنوع .
ثمّ إنّ المنساق من النصوص والفتاوى الواردة في الأجير بالمعنى الثاني أنّ محلّ البحث هو العمل في العين ، كخياطة الثوب وصياغة الخاتم ونحوهما ، أمّا لو تقبّل العمل الصرف غير المتعلّق بالعين كالصوم والصلاة بناءً على صحّة الاستئجار لمثلهما ، فهل يجري فيه ذلك الحكم تحريماً أو تنزيهاً ، أو يكون حكمه على وفق القاعدة المقتضية للجواز كما عرفت في صدر المسألة السابقة؟ وجهان ، قال في الجواهر بعد اختيار الوجه الثاني : اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ ذكر بعض لوازم العمل في العين لا يقتضي تقييد ذلك به ، وحينئذ يعتبر في جواز تقبيله بالأقلّ عمل شيء منه(2) .
- (1) جواهر الكلام : 27 / 319 .(2) جواهر الكلام : 27 / 319 .
(الصفحة 391)
أقول : إن كان المراد أنّ ذكر بعض تلك اللوازم لا يقتضي تقييد ما ورد مطلقاً ففيه : أنّه ليس في روايات المسألة ما يدلّ بإطلاقه على ذلك كما يظهر بملاحظتها ، وإن كان المراد أنّه لا يرى العرف للمورد خصوصية ففيه : منع ذلك في مثل المقام من الأحكام التعبّدية المخالفة للقاعدة ، فالأقوى هو الوجه الثاني ، وإن استشكل فيه صاحب العروة(1) أيضاً .
ثمّ إنّ التقبيل في العمل في العين وإن كان حكمه ما ذكرنا ، إلاّ أنّ جواز تسليم العين إلى الأجير الثاني وكذا العين المستأجرة في المسألة السابقة محلّ إشكال ، وإن كان يمكن أن يقال : بأنّ عدم اشتراط المباشرة ولا ثبوت انصراف بالإضافة إليها مرجعه إلى جواز التسليم لثبوت الإذن في ضمن الإجارة الاُولى ، كما لا يخفى .
***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
وقد جرت عادتهم هنا على التعرّض لحال إجارة المستأجر العين المستأجرة من مستأجر آخر مؤجراً كان أو غيره ، ونحن أيضاً نتعرّض لها ونقول : في هذه المسألة جهات من الكلام :
الجهة الاُولى : في أنّه هل يجوز للمستأجر أن يؤجر العين من المؤجر أو غيره أو لا يجوز ؟ وقد نفى الخلاف في الجواز صاحب الجواهر ، بل قال : إنّ الإجماع بقسميه عليه(2) ، ونفى الإشكال في الجواز المحقّق الإصفهاني (رحمه الله)(3) ، واُضيف في الجواهر إلى هذا عموم الوفاء
- (1) العروة الوثقى : 5 / 80 مسألة 2 .(2) جواهر الكلام : 27 / 257 .(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 108 .
(الصفحة 392)
بالعقود ، وعمومات الإجارة ، وقاعدة التسلّط ، والنصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة في الأرض والدابّة والسفينة وغيرها ، الدالّة على عدم جواز إجارتها بأكثر ممّا استأجرها به .
أقول : أمّا عموم الوفاء بالعقود فالتمسّك به مبنيّ على كون مفاده صحّة كلّ عقد أو مع اللزوم أيضاً ، وأمّا لو كان مفاده اللزوم فيما ثبتت صحّته من دليل آخر فلا مجال للتمسّك به في مثل المقام ، وأمّا عمومات الإجارة فلم نقف على عموم واحد في باب الإجارة فضلاً عن العمومات ، وأمّا قاعدة التسلّط فالظاهر أنّه ليس مفادها بيان ثبوت التسلّط للناس في أموالهم بالنسبة إلى جميع التصرّفات ، حتّى يصحّ التمسّك بها في الموارد المشكوكة كالمقام ونظائره ; لأنّ اللاّزم على هذا أن تكون أدلّة التصرّفات الممنوعة شرعاً مخصّصة لدليل القاعدة كما لا يخفى ، بل الظاهر أنّ مفادها مجرّد عدم جواز مزاحمة الغير مع المالك ، مضافاً إلى أنّ اعتبار دليلها غير معلوم .
وأمّا النصوص ، فاستفادة صحّة الإجارة الثانية منها بنحو المفروغيّة ممّا لا ينبغي الارتياب فيها ، إلاّ أنّ غاية مفادها الصحّة بنحو الإجمال ، فلو احتمل مدخليّة شيء في الصحّة كإذن المالك مثلاً لا مجال لنفي احتمال دخالته بهذه النصوص ، كما هو غير خفيّ ، وحينئذ فاللاّزم الرجوع إلى أصالة الفساد مع عدم وجود ذلك الشيء ، إلاّ أن يتمسّك لنفي اعتباره بأدلّة البراءة كما ذكرناه سابقاً ; نظراً إلى تقدّمها على الاستصحاب هنا ، لجريانها في الشكّ السببي ، وكون الشكّ الذي هو مجرى الاستصحاب مسبّبيّاً.
(الصفحة 393)
ثمّ إنّه حكي الخلاف في هذه الجهة عن الشافعي(1) ، حيث منع عن الجواز فيما إذا كان المستأجر الثاني هو المؤجر الأوّل ، نظراً إلى أنّ المؤجر يملك المنفعة بالتبعية ، فلامجال لتملّكه لها بسبب آخر ، وفساد هذا الدليل غنيّ عن البيان . نعم ، فيما إذا كانت العين المستأجرة دابّة قد قيّد الجواز في بعض الكلمات بما إذا كانت الإجارة الثانية مماثلة للإجارة الاُولى من حيث المنفعة أو أضعف منها ، فلا تجوز إجارة الدابّة المستأجرة بالأثقل ، والأمر فيه سهل .
الجهة الثانية : في أنّه هل يجوز تسليم العين المستأجرة إلى المستأجر الثاني من دون مراجعة المالك والاستئذان منه ، فلا يضمن المستأجر الأوّل لو هلك من دون تعدٍّ وتفريط ، أو لا يجوز التسليم من دون إذنه فيضمن بمجرّد التسليم بدونه ، أو يفصّل بين ما إذا كان المستأجر الثاني أميناً وبين ما إذا لم يكن كذلك ؟ وجوه بل أقوال . نسب الأوّل إلى الأشهر والأكثر(2) ، والثاني إلى النهاية(3) والسرائر(4) وجامع المقاصد(5) والقواعد(6) ، واختاره صاحب الجواهر (قدس سره)(7) ، ولكن قيل : إنّ ما نسب إلى النهاية والسرائر لا أصل له ; لأنّ كلامهما في تسليم الأجير العين التي يعمل فيها إلى الأجير الثاني لا في تسليم المستأجر العين
- (1) تذكرة الفقهاء : 2 / 290 ، الخلاف : 3 / 494 مسألة 11 ، المغني لابن قدامة : 6 / 54 ، الشرح الكبير : 6/40 .(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 123 ، كتاب الإجارة للآشتياني : 243 .(3) النهاية : 446 .(4) السرائر: 2 / 465 ـ 467.(5) جامع المقاصد : 7 / 124 ـ 125 .(6) قواعد الأحكام : 2 / 287 .(7) جواهر الكلام : 27 / 257 ـ 258 .
(الصفحة 394)
المستأجرة(1) . وكيف كان ، فقد نسب الثالث إلى ابن الجنيد(2) .
وليعلم أنّ محلّ البحث هنا إنّما هو بعد الفراغ عن عدم ضمان المستأجر الأوّل للعين مع عدم التعدّي والتفريط مع قطع النظر عن الإجارة الثانية ، كما أنّ محلّ النزاع فيما لو كان تلفه في يد المستأجر الثاني من دون تعدّ منه أو تفريط ، وحينئذ فيقع الكلام في أنّ مجرّد التسليم إلى المستأجر الثاني من دون إذن المالك هل يكون جائزاً ، فلا ضمان لعدم موجبه ، أو لا يكون جائزاً فيضمن بسببه ، لصيرورته مع عدم الجواز متعدّياً ، أو في المسألة تفصيل ؟ كما عرفت عن ابن الجنيد .
إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه قد استدلّ للقول الأوّل بوجوه :
منها : أنّ التسليم من مقتضيات عقد الإجارة وضروريّاته ، لتوقّف استيفاء المنفعة عليه ، فإذا جاز للمستأجر أن يؤجر جاز له تسليم العين ، وبتقريب آخر إذن المالك في الإجارة الثانية مستلزم للإذن في التسليم ; لأنّ الإذن في الشيء إذن في لوازمه ، والفرق بين التقريبين أنّ منشأ الحكم بعدم الضمان في التقريب الأوّل حكم الشارع بجواز الإجارة الثانية ، الملازم عرفاً للحكم بعدم الضمان مع التسليم ; لأنّه من لوازمها ، وفي التقريب الثاني يكون المنشأ هو إذن المالك في التسليم المستفاد من إذنه في الإجارة الثانية ; لأنّ التسليم من مقتضيات الإجارة ولواحقها .
واُجيب عن هذا الوجه بوجوه عمدتها وجهان : واحد منهما ناظر إلى التقريبين ، والآخر إلى التقريب الأوّل .
أمّا الأوّل : فهو ما أفاده صاحب الجواهر(3) وتبعه بعض
- (1) راجع كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 124 .(2) حكى عنه في مختلف الشيعة : 6 / 115 مسألة 12 .(3) جواهر الكلام : 27 / 258 .