(الصفحة 403)
تحقّق ملك المنفعة ، بل يمكن أن يقال : إنّ ما ينتقل إلى المستأجر من المؤجر إنّما هو حقّ الانتفاع الثابت للمؤجر باعتبار كونه مالكاً للعين ، وليس هنا ملكيّة بلحاظ المنفعة حتّى بالنسبة إلى المؤجر ، ولعلّ الاعتبار العقلائي كان مساعداً لهذا المعنى ، فإنّ الظاهر عدم كون مالك العين لدى العرف والعقلاء مالكاً لأمرين : العين ، والمنفعة ، وإن لوحظت حيثيّة الأصالة والتبعيّة ، فإنّه مع هذه الملاحظة أيضاً لا يعدّ المملوك أمرين ، بل لا يكون هنا إلاّ العين والإضافة الملكيّة بالنسبة إلى المالك . غاية الأمر أنّ من شؤون ملكيّة العين حقّ الانتفاع بها والاستفادة منها ، وكما أنّ للمالك أن يستوفي الحقّ بنفسه وبالمباشرة كذلك يجوز له النقل إلى الغير بالإجارة ونحوها ، فحينئذ يصحّ أن يقال : بأنّ الإجارة لا تؤثّر في أزيد من انتقال حقّ من طرف إلى آخر .
غاية الأمر أنّه تارةً تؤثّر في انتقال حقّ الاستيفاء من العين ، بمعنى أنّه كما كان للمالك الاستيفاء بالمباشرة كذلك يثبت هذا المعنى للمستأجر ، فلا حقّ له إلاّ الاستيفاء بنفسه ، واُخرى تؤثّر في انتقال حقّ الاستيفاء بالعين الذي هو أعمّ من الاستيفاء بنفسه ومن الإيجار للغير ; والأوّل يعبّر عنه بالاستيفاء من العين والثاني بالاستيفاء بالعين ، ويترتّب على الأوّل عدم جواز الإجارة من الغير ، لعدم قابليّة الحقّ المنتقل إلى المستأجر للنقل إلى الغير . وعلى الثاني الجواز لثبوت القابلية ، والفارق بين الصورتين إنّما هو الاشتراط أو التقييد وعدمهما ، وعلى هذا يحمل ما ورد في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة ممّا يدلّ على جواز اشتراط المؤجر أن لا يركب الدابّة المستأجرة غير المستأجر ، وإلاّ فبناءً على ما هو المعروف من كون المترتّب على الإجارة ملكيّة المنفعة ربّما يشكل صحّة هذا الاشتراط ; لما عرفت من عدم اجتماع الصحّة مع اعتبار ملك المنفعة .
(الصفحة 404)
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ صحّة أصل الاشتراط بناءً على ما هو المشهور في باب الإجارة ممنوعة . نعم ، يمكن التصحيح بناءً على ما احتملناه من عدم كون الإجارة مؤثّرة إلاّ في انتقال حقّ من المؤجر إلى المستأجر ، وعليه فلا تصل النوبة إلى البحث في صحّة الإجارة الثانية ; لأنّها فيما إذا كانت الإجارة الاُولى مترتّباً عليها حقّ الاستيفاء من العين لا مجال لتوهّم الصحّة فيها ، وفيما إذا كانت مؤثّرة في انتقال حقّ الاستيفاء بالعين لا مجال لتوهّم البطلان فيها ، وأمّا بناءً على ما هو المعروف فقد وقع الإشكال في صحّة الإجارة الثانية مع اشتراط عدمها أو استيفاء المنفعة بنفسه لنفسه ، بناءً على صحّة الاشتراط والإغماض عمّا فيها ، ومنشأ الإشكال أنّ مثل هذا الاشتراط هل يؤثّر في بطلان التصرّف المخالف ، أو أنّه لا يترتّب عليه إلاّ مجرّد خيار التخلّف عن الشرط على تقديره ، وما قيل في تقريب الأوّل وبطلان الإجارة الثانية اُمور :
أحدها : ما في الجواهر من أنّه لا يجوز حينئذ عملاً بقاعدة «المؤمنون»(1) التي يتعذّر الجمع بينها وبين الإجارة المفروضة ، فيتعيّن بطلانها لسبق الخطاب بالاُولى(2) .
قال المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) في تقريبه : إنّ الأمر بالوفاء بالشرط والأمر بعقد الإجارة الثانية متمانعان لا يمكن فعليّتهما معاً ، لكنّه يقدّم الأوّل على الثاني لتقدّمه عليه وجوداً ; لوجود سببه بلا مانع في حال ترقّب التأثير منه ، بخلاف الثاني لوجود السبب المسبوق بالمانع . وأجاب عنه : بأنّ نفوذ عقد الإجارة تابع لوجود جميع ما يعتبر في العقد ، وفي المتعاقدين وفي
- (1) وسائل الشيعة : 21 / 276 ، كتاب النكاح، أبواب المهور ب20 ذ ح 4.(2) جواهر الكلام : 27 / 260 .
(الصفحة 405)
مورد العقد ، واشتراط ترك الإجارة لا يوجب خللاً في شيء منها ، فالإجارة لا تبقي المحلّ للوفاء بالشرط لانقلاب ترك الإجارة إلى نقيضها بخلاف الشرط ، فإنّه لا يوجب الخلل في السبب التامّ لنفوذ الإجارة ، فلا أمر بالوفاء بالشرط مع وجود الإجارة حتّى يمنع عن الأمر بالوفاء بعقد الإجارة(1) .
ثانيها : ما حكي عن بعض الأعلام من أنّ نفوذ كلّ معاملة منوط بملك التصرّف ، ومع وجوب الوفاء بالشرط تحرم الإجارة ، فيكون المستأجر مسلوب القدرة شرعاً ، فلا يملك هذا التصرّف المعاملي(2) .
وأجاب عنه المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) بما حاصله : أنّه إن اُريد من نفي القدرة والسلطنة على التصرّف المعاملي عدم الرخصة تكليفاً فهي ليست من شروط نفوذ المعاملة ، بل كما حقّق في محلّه يكون التحريم دليلاً على نفوذ المعاملة ومؤكّداً له ، وإلاّ لم تكن مقدورة . وإن اُريد من نفي القدرة عدم السلطنة الوضعية فمن المعلوم أنّها تابعة لاستجماع السبب لما له دخل في تأثيره ، والمفروض اشتمال كلّ من العقد والعاقد والمنفعة على الشرائط المعتبرة فيها ، فعدم ملك التصرّف بمعنى عدم الجواز تكليفاً مفروض إلاّ أنّه لا ينافي النفوذ ، وبمعنى عدم الجواز وضعاً غير مفروض ، بل هو أوّل الكلام ، فتدبّر جيّداً(3) .
أقول : ولقد أجاد فيما أفاد إلاّ أنّ تسليمه تعلّق الحرمة الشرعية التكليفيّة بالتصرّف المعاملي محلّ منع ، ضرورة أنّه ليس هنا إلاّ وجوب
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 113 .(2) حكى عنه المحقّق الإصفهاني في بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 113 .(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 114 .
(الصفحة 406)
الوفاء بالشرط على ما يقتضيه قوله (صلى الله عليه وآله) : «المؤمنون عند شروطهم»(1) ، ولم يدلّ دليل على حرمة التصرّف المعاملي الذي هو مناقض للوفاء ، إلاّ أن يقال باقتضاء الأمر بالشيء المنهيّ عن ضدّه ، وقد حقّق في محلّه عدم الاقتضاء بوجه . غاية الأمر أنّ العقل بعدما يرى أنّ التصرّف المعاملي مناف للوفاء بالشرط يحكم بلزوم تركه لأجل تحقّق الواجب الشرعي ، لكنّه ليس إلاّ مجرّد لزوم عقليّ غير مناف لملك التصرّف .
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الملازمة بين وجوب الوفاء بالشرط وبين كون المستأجر مسلوب القدرة شرعاً ممنوعة ، من دون فرق بين أن يكون المراد بعدم القدرة عدم الجواز تكليفاً أو عدم النفوذ وضعاً ، فتدبّر جيّداً .
ثالثها : ما حكي عن الشيخ الأعظم العلاّمة الأنصاري (قدس سره) في شرط عدم الفسخ في خيار المجلس من الاستدلال لعدم تأثير الفسخ المشروط عدمه بعموم «المؤمنون» ، نظراً إلى أنّ مقتضاه وجوب الوفاء بالشرط حتّى بعد قوله : فسخت ، ولازمه في المقام التمسّك بإطلاق وجوب الوفاء بالشرط حتّى بعد إنشاء الإجارة الثانية ، حيث إنّه يكشف عن عدم نفوذ الإجارة ، وإلاّ لم يكن محلّ للوفاء بالشرط(2) .
وأجاب عنه المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) بما حقّق في محلّه من لزوم انحفاظ المطلق في مراتب إطلاقه ، وبعد إنشاء الإجارة الثانية ـ حيث يحتمل تأثيره ـ يشكّ في بقاء المحلّ للوفاء ، فيكون من التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، مضافاً إلى أنّ متعلّق الشرط إن كان ترك إنشاء
- (1) التهذيب : 7 / 371 ح1503 ، الاستبصار : 3 / 232 ح835 ، عوالي اللآلي : 3 / 217 ح77 ، وسائل الشيعة : 21 / 276 ، كتاب النكاح، أبواب المهور ب20 ح4 ، مستدرك الوسائل : 13 / 301 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب5 ح7 .(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 5 / 56 ـ 57 .
(الصفحة 407)
الإجارة فقط ، فبمجرّد إنشائه يسقط الشرط عن اقتضاء الوفاء لعدم المحلّ له قهراً ، فكيف يعقل إطلاقه لما بعد المخالفة القهرية ، وإن كان ترك الإنشاء الناقل فمقتضى لزوم تعلّق الالتزام بالمقدور إمكان تحقّق الإجارة الحقيقية منه ، فكيف يعقل إطلاق الوجوب لما بعد الإنشاء الناقل ، الذي لا يبقى معه محلّ للوفاء ، فتدبّره فإنّه حقيق به(1) .
أقول : ما أفاده من لزوم انحفاظ المطلق في مراتب إطلاقه وإن كان مسلّماً إلاّ أنّه لا يلزم أن يكون الانحفاظ محرزاً بالوجدان ، بل يكفي الاستناد فيه إلى أصل يقتضي ذلك ، وفي المقام يمكن التمسّك في بقاء الانحفاظ إلى أصالة بقاء المحلّ للوفاء ، فإنّه مع الشكّ في تأثير الإجارة الثانية يكون بقاء المحلّ للوفاء مشكوكاً ، فما المانع حينئذ من إجراء الاستصحاب والحكم ببقاء الوجوب لأجل بقاء المحلّ ، وليس من التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية بوجه ، كما هو ظاهر .
وأمّا ما أفاده ثانياً من أنّ متعلّق الشرط إن كان الخ ، فيمكن الإيراد عليه بأنّ عدم بقاء المحلّ للوفاء على كلا التقديرين ممنوع ; لأنّه فيما إذا كان متعلّق الشرط مجرّد ترك الإنشاء حقّ لا ريب فيه ، وأمّا إذا كان متعلّقه ترك الإنشاء الناقل فاللاّزم التفصيل بين ما إذا كان المتعلّق عدم حدوث الإنشاء الناقل ، وبين ما إذا كان عدم تحقّق الإنشاء الناقل ولو بقاءً ، بحيث كان الغرض متعلّقاً بإبطال الإجارة على تقدير تحقّقها مع الإمكان ، وعدم كون الغير مالكاً للمنفعة ولو بقاءً ، ففي الأوّل الأمر كما أفاده (قدس سره) ، وأمّا في الثاني فالمحلّ للوفاء على تقدير صحّة الإجارة أيضاً باق ، فيجب عليه بمقتضى دليل وجوب الوفاء بالشرط أن يحصّل مقدّمات الفسخ ولو
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 114 .