(الصفحة 89)
هذا، وربّما يجاب عن ذلك بأنّه لا مانع عن جعلها بهذا النحو أيضاً ; لأنّ المقام حينئذ يصير كالعلم الإجمالي المتعلّق بأحد الشيئين ، فكما أنّ تردّد المعلوم في موارد العلم الإجمالي لا يمنع عن تعلّق العلم به . غاية الأمر إيجابه لكون العلم متّصفاً بالإجمالي قبال العلم التفصيلي الذي لا تردّد في معلومه ، كذلك التردّد في المقام لا يقدح بتعلّق العلم بما هو المجعول اُجرة . غاية الأمر كونه معلوماً بنحو الإجمال ، وكذلك المقام نظير الواجب التخييري ، بناءً على كونه سنخاً من الوجوب متعلّقاً بأمرين أو أزيد ، فكما أنّه لامانع من ايجاب أمرين أو أزيد بنحو الوجوب التخييري ، الذي مرجعه إلى إفادة عدم لزوم الإتيان بأزيد من أحدهما بواسطة الإتيان بكلمة أو ونحوها ، كذلك لا مانع عن جعل الاُجرة في المقام كذلك ، كما لايخفى .
ويرد على هذا الجواب : بطلان مقايسة المقام بموارد العلم الإجمالي ، وذلك لأنّ في تلك الموارد يكون المعلوم بالإجمال له واقعية وتعيّن . غاية الأمر أنّ المكلّف مردّد لا يعلم بأنّ هذا الطرف من العلم الإجمالي هو ذلك المعلوم أو ذاك الطرف ، وأمّا في المقام فالمفروض أنّه لا تكون الاُجرة متعيّنة بحسب الواقع ; لأنّها مجعولة مردّدة من أوّل الأمر ، فلا يعقل أن يتّصف بالمعلومية ، وكذا بالمجهولية لما عرفت ، وأمّا تنظير المقام بالواجب التخييري فمحلّ نظر بل منع أيضاً ; لأنّه هناك يكون كلّ واحد من الأمرين أو الاُمور معروضاً للوجوب ومحكوماً عليه به . غاية الأمر أنّه لا يجب الإتيان بالجميع ; لأنّ هذا أيضاً سنخ من الوجوب مغاير للوجوب التعييني ، وهنا لاتكون الاُجرة إلاّ أحد الأمرين ، لا عنوان أحدهما بل المردّد بينهما ، وهو كما عرفت ليس له واقعية حتّى يتّصف بالمعلومية أو بنقيضها .
[انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].
***
(الصفحة 90)
الفرع الثاني : ما لو قال : إن خطته رومياً فلك درهمان ، وإن خطته فارسياً فلك درهم ، وقد وقع الخلاف فيه من حيث صحّة هذا النحو من الإجارة وعدمها ، وقد صرّح المحقّق في الشرائع بالصحّة(1) ، وهي المحكية عن الخلاف(2) والتذكرة(3)والتنقيح(4) ومجمع البرهان(5) والكفاية(6) واللمعة(7) ، وعن التحرير : أنّه لايخلو من قوّة(8) ، ولكن المحكي عن السرائر(9) والمختلف(10) والإيضاح(11) وشرح الإرشاد(12)والحواشي(13) وجامع المقاصد(14) والمسالك(15) والروضة(16) هو البطلان ، وقد حكي عن سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره)أنّه حكى عن أبي حنيفة القول بصحّة الإجارة في التقدير الأوّل الواقع في عبارة المستأجر، والحكم بثبوت اُجرة المثل في التقدير الآخر ، ولكن صرّح في مفتاح الكرامة بأنّ أبا حنيفة ممّن يقول بصحّة العقد
- (1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .(2) الخلاف : 3 / 510 مسألة 40.(3) تذكرة الفقهاء: 2 / 294 .(4) التنقيح الرائع : 2 / 265 .(5) مجمع الفائدةوالبرهان : 10 / 24 ـ 25 .(6) كفاية الأحكام : 125 .(7) اللمعة الدمشقية : 94 .(8) تحرير الأحكام : 3 / 83 ، وفيه : «جاز على إشكال» .(9) السرائر : 2 / 478 .(10) مختلف الشيعة : 6 / 130 مسألة 31.(11) إيضاح الفوائد : 2 / 248 .(12) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 7 / 106 .(13) حاشية الإرشاد (المطبوع مع غاية المراد) : 2 / 310 .(14) جامع المقاصد : 7 / 107 .(15 ، 16) مسالك الأفهام : 5 / 182، الروضة البهية: 4 / 334 ـ 335.
(الصفحة 91)
على التقديرين في هذا الفرض(1) ، وذهابه إلى ما ذكر إنّما هو في الفرع الآخر ((2)،(3))
ويمكن التفصيل في مثل المقام بين ما إذا كان للتقديرين جامع قريب حتّى يقال بأنّه متعلّق العقد ومورد الإجارة ، سواء كان الاختلاف بين الفردين بنحو الأقل والأكثر كما في المثال المفروض ; وهي الخياطة بدرز واحد أو بدرزين ، أو بغير هذا النحو ، وبين ما إذا لم يكن لهما جامع كذلك ، كما لو قال له : «إن خطت لي ثوباً فلك كذا» و«إن حملتني إلى مكان كذا فلك كذا» ، وأسوأ منه ما إذا لم يكن بينهما جامع أصلاً ، كما لو قال له : «آجرتك داري شهراً بكذا» أو «استأجرتك للخياطة بكذا» بنحو تكون إجارة واحدة مردّدة بين إجارة الدار واستئجاره للخياطة .
وكيف كان ، فملاحظة كلمات الأصحاب المذكورة في مفتاح الكرامة تقضي بعدم التجاوز عن قولين : الصحّة مطلقاً ، والبطلان كذلك .
إذا عرفت ماذكرنا فاعلم أنّ المحقّق الإصفهاني (قدس سره) صرّح بعدم معقولية هذا النحو من الإجارة ، وبأنّ الأمر في عدم المعقولية فيه أوضح من الفرع الأوّل ; لأنّ المفروض هناك تصوّر ماهية منفعة الدار من دون تعيّن بأحد التعيّنات الثلاثة ، وأمّا هنا فلا شيء حتّى يلاحظ غير متعيّن بأحد التعيّنات ، فإطلاق الإبهام عليه بمجرّد الفرض لما مرّ من أنّ كلّ واحد من طرفي الترديد قد أخذ متعيّناً بجميع أنحاء التعيّن الماهوي والوجودي ، فلم يبق شيء حتّى يلاحظ بلا تعيّن ماهوي أو وجودي ، وحيث لاشيء هنا فلا يعقل أن يكون فرض الترديد مصححاً لتعلّق أيّة
- (1) الخلاف : 3 / 510 مسألة 40 ، والمبسوط للسرخسي : 15 / 100 ، وتبيين الحقائق : 5 / 138 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 87 .(2) الخلاف : 3 / 509 مسألة 39 ، والمبسوط للسرخسي : 15 / 99 ـ 100 ، وتبيين الحقائق : 5 / 138 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 87 .(3) مفتاح الكرامة : 7/108
(الصفحة 92)
صفة تعلقية بما لاثبوت له(1) .
أقول : هذه شبهة ثبوتية لو لم تدفع لما وصلت النوبة إلى مقام الإثبات وملاحظة الأدلّة ; لأنّ المحال لا يقبل التعبد شرعاً ، ولكن الظاهر إمكان دفعها بأنّ التعبير بهذه العبارة في مقام إيقاع عقد الإجارة إن كان الغرض منه كون كلا الأمرين موردين للإجارة . غاية الأمر أنّه يكفي في حصول الغرض الإتيان بواحد منهما ، ويستحقّ الأُجرة المعيّنة الواقعة بإزائه ، فلا ينبغي الإشكال فيه ; لأنّ المقام يصير حينئذ من قبيل الواجب التخييري ، الذي هو سنخ من الوجوب وطور من البعث ، ولاوجه لأن يقال : بأنّه بعدما كان كلّ واحد من طرفي الترديد مأخوذاً متعيّناً بجميع أنحاء التعيّن لم يبق شيء حتّى يلاحظ بلا تعيّن ; لاندفاعه بعدم الحاجة إلى بقاء شيء ، بل كلّ واحد من الطرفين المتصف بجميع أنحاء التعيّن متّصف بأنّه مورد الإجارة ومتعلّق عقدها . غاية الأمر إنّه لا يلزم الإتيان بكليهما لما مرّ من حصول غرض المستأجر بفعل واحد منهما .
وبالجملة : إن كان الغرض تعلّق الإجارة بكلا الأمرين فلا يبقى مجال ـ لمن تصوّر الوجوب التخييري على نحو يكون كلّ واحد من الفعلين أو الأفعال متعلّقاً للوجوب ومبعوثاً إليه ـ للإشكال في صحّتها في المقام; لعدم الفرق .
نعم ، لو كان الغرض الترديد في نفس الإجارة ; بأن كان المستأجر مردّداً في أنّ الإجارة هل تتعلق بالخياطة الرومية أو بالخياطة الفارسية ؟ لكان للشبهة المذكورة مجال ولكنّ الظاهر أنّه خلاف ماهو المتعارف والواقع في الخارج ، هذا بحسب مقام الثبوت .
- (1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 80 ـ 81 .
(الصفحة 93)
وأمّا مقام الإثبات ، فالظاهر أنّه لا دليل على بطلان هذا النحو من الإجارة ، والتعليل بالجهالة كما في «العروة»(1) ممنوع ; لعدم ثبوت الجهالة هنا لا في العمل ولا في الاُجرة الواقعة بإزائه ، كما أنّ الاستناد إلى الإبهام المنافي للملكية في المعاوضات كما في «الجواهر»(2) ـ ولأجله حمل عبارة الشرائع على الجعالة ، مع أنّ الكلام إنّما هو في باب الإجارة دونها ، وظهور العبارة في نفسها في الجعالة إنّما يصحّ الاتكال عليه لو لم تكن قرينة قوية على الخلاف ـ ممنوع أيضاً ; لأنّه لا دليل على لزوم تعيّن العمل المستحق عليه ; لما أفاده سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) في حاشية العروة من أنّه لا مانع من أن يستحقّ عليه أحد العملين ، ويكون التعيين باختيار العامل ، وأيّهما فعل استحقّ ماعيّن له من الاُجرة(3) .
ودعوى أنّ المتسالم عليه بينهم هواستحقاق الأُجرة بنفس العقد ، وفي المقام أيّ شيء يستحقّه الخيّاط في المثال بنفس العقد مدفوعة ، بأنّ ما ذكروه إنّما هو في قبال بعض العامّة(4) القائل بتوقّف استحقاق الاُجرة على تماميّة العمل ، فمرادهم بذلك نفي ذلك القول ، وعليه فالخياط في المثال يستحقّ بنفس العقد الدرهم أو الدرهمين بنحو الإبهام وعدم التعيّن . وكيف كان ، فالظاهر أنّه لادليل على البطلان .
ثمّ إنّه على تقدير القول بصحّة الإجارة على تقديرين تكون الصحّة على فرض «إجارة واشتراط» ; بأن يستأجر للخياطة بدرز واحد بدرهم ، واشترط عليه أنّه إن زاد درزاً آخر يستحقّ عليه درهماً آخر بطريق أولى .
- (1) العروة الوثقى : 5 / 18 مسألة 11 .(2) جواهر الكلام : 27 / 236 .(3) العروة الوثقى : 5 / 18 ـ 19 ، التعليقة 3 .(4) راجع الخلاف : 3 / 489 ـ 490 مسألة 4 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 14 .